التحرّر من الرقابة

ثمة حالات تتذرّع بالرقابة ومخلفاتها المجهضة.. في حين تكمن علّة تلك الحالات، في الكاتب أو الفنان ذاته وفي ضعف موهبته ومحدودية أفقه

*إبراهيم صموئيل

بقدر ما يبدو من المكرّر, والممجوج, والمملّ، معاودة التوقّف مع الرقابة التي تمارسها السلطات العربيّة, والحديث عن آثارها بالغة السلبيّة على النشاطات الفكرية والأدبية والفنية ؛ فإنّ من المثير, بلا شكّ, التوقّف والتأمّل في نتائج حال عدم وجود الرقابة العربية, وانتفاء أيّ أثر لها بالتالي.

ولقد كان من الطبيعي أن يثير وجود الرقابة على الفكر والأدب والفن الاستياء والنفور من تسلّطها لكونها تحدّ من فضاء حرية المبدع، و تحجر على الإبداع داخل خطوط حمراء يقررها ويرسمها رقيب قد يكون أقرب إلى الأمّي، أو هو مجرد موظف/آلة تشطب وتحذف وتمنع وفق ما بُرمجت عليه من السلطات الحاكمة.

ومن الطبيعي أنك حين تبدع تحت عيون مبحلقة ووعيد مُنذر، ترتبك وتتعثر وتطير على ارتفاع منخفض بالضرورة. لهذا، ولغيره، لا يكفّ المبدع عن الشكوى من الرقابة, وعن المطالبة برفعها وإلغائها ليكون حراً. ولهذا، أيضاً، يُرجع عديد من المبدعين تعثّر إبداعهم أو غموضه أو ضعف جرأته أو عدم غوصه عميقاً أو تجدّده… إلى وجود مؤسسات رقابة عربية بيروقراطية, متسلّطة, جائرة.

يصعب على عدد من المتلقّين بسبب ضآلة الفروق بين عمل وآخر التمييز بين ما أنجزه المبدع في بلده وما أنجزه في المهجر

من هنا, فإن موضوعنا لا يتوقّف مع وجود الرقابة العربية وتسلّطها, وإنّما مع حال انتفاء وجودها, وتبدّد آثارها على حياة مبدعين عرب ممّن هاجروا إلى بلدان أخرى في أوروبا أو أميركا، وأقاموا فيها لعقد أو عقدين أو أكثر، فكانوا بهذا خارج الرقابة العربية، بعيدين عن سطوتها وممنوعاتها ومحظوراتها.

سر الرداءة؟
في أحوال كهذه, ثمّة ما يُوجب التساؤل عنه: هل تراهم أنتجوا نوعيّاً ما هو أبدع وأعمق وأجدّ مما أنتجوه حين كانوا في بلدانهم المتخلّفة المستبدّة, تحت سطوة الرقابة ووصايتها؟ ثمّ, هل بين مستوى منجزهم هناك ومستوى منجز نظرائهم المبدعين هنا, ذلك البون الشاسع, والفارق النوعي الكائن بين وجود الرقابة على النشاط الذهني, وانتفاء وجودها؟

من شأن معرفة الجواب ليس توضيح درجة سوء الرقابة على الإبداع, ومدى شدّة تعويقها لنشاط المبدعين, وإنّما القصد هو الكشف والبيان -عبر المقارنة- عن مدى ما يمكن أن تهبه حريّة التعبير من طاقات للمبدع, وتوفّر من فضاءات للإبداع. وإلى ذلك, الكشف عن مدى واقعيّة ودقّة ما يذهب إليه أصحاب العديد من الأعمال من أن الرقابة العربية إيّاها هي السبب خلف ضعف أو رداءة أو جبن أعمالهم.

ما لاحظته في مُنجز عدد من مبدعين عرب، في بلدان المهجر، وجود علاقة أخوّة وصلة قربى شديدة مع تلك التي سبق لهم أن أنتجوها في بلدانهم الأصلية تحت سيف الرقابة المسلّط. بحيث يصعب على عدد من المتلقّين -بسبب ضآلة الفروق بين عمل وآخر- التمييز بين ما أنجزه المبدع في بلده, وما أنجزه في المهجر.

نكهة أقوى
كما يمكن ملاحظة أمر آخر -ولعلّه يكون أغرب- وهو أن بعض أعمال المهاجرين الأدبيّة الصادرة, أو الفنيّة المُنجزة, داخل بلدانهم الأم تمتاز بنكهة أقوى وصدق أشدّ وحرارة أظهر مما لتلك الأخرى التي حقّقوها تحت فضاء حرية التعبير في بلدان المهجر, إذ تتّسم الأخيرة هذه برخاوة المبنى والمعنى والروح بالمقارنة مع تلك التي قدّموها في بلدانهم.

ما لاحظته في مُنجز عدد من مبدعين عرب، في بلدان المهجر، وجود علاقة أخوّة وصلة قربى شديدة مع تلك التي سبق لهم أن أنتجوها في بلدانهم الأصلية تحت سيف الرقابة المسلّط

هل يبدو كلامي كأن المؤدّى منه هو أن الرقابة والتسلّط خير وأرحم للإبداع من فضاء الحريّة؟ بكلّ التأكيد والجزم, ليس القصد هذا. فالإنسان خُلق ليكون حرّاً, سواء  أكان مبدعاً أم لم يكن. جوهر الفكرة أمران: أولهما, أن للإبداع سبله وطرائقه الكثيرة جدا للظهور والحضور حتى حين يكون صاحبه داخل أسر التسلّط والرقابة المتشددة. وهو ما تدلّ عليه الأعمال العربيّة العظيمة -مبنى وموضوعا ورؤية- التي ظهرت في بلداننا.

وثانيهما, أن ثمة حالات تتذرّع  بالرقابة ومخلفاتها المجهضة وقوانينها البائسة المجحفة على الطالع والنازل، في حين تكمن علّة تلك الحالات، في الكاتب أو الفنان ذاته وفي ضعف موهبته ومحدودية أفقه. إذ حين تُتاح له الهجرة والإقامة لسنوات طوال, لا نراه يُنتج أفضل مما كان أنتجه، ولا هو يرتقي فوق المستوى الذي كان عليه، من دون أن يعني ذلك -مرة أخرى ودائما- أن الرقابة محمودة مشكورة ذات أفضال لا تُنكر!

لا شكّ أن موضوعاً كهذا ملتبس, وحسّاس, وقابل للتأويل. لكنّه ذو فائدة تتعلّق بثوابت في حياتنا وأفكارنا وثقافتنا, لا بدّ, بين حين وآخر, من تحريكها وتقليبها, ومعاودة النظر إليها, على غرار مختلف المراجعات لمختلف الشؤون العامة والخاصة, الفكريّة وغير الفكريّة في مجمل حياتنا.

وبوضوح أقول: لا نتائج نهائية في ذهني، ولا استخلاصات أخيرة وحاسمة. تحتاج المسألة إلى دراسة ميدانية معمّقة تكشف عمّا يميّز الأعمال التي أنجزت في البلدان الأم, والأخرى التي ظهرت في المهجر لمبدعين مهاجرين. وكذا مقارنة المنجز الثقافي العربي في بلدان المهجر مع مُنجز مبدعين آخرين في بلدانهم الأمّ, ممّن لم يُقيّض لهم أن ينعموا بالحريّة, ويجرّبوا الإنتاج في مناخها.
_____________
* كاتب وقاصّ سوري

المصدر : الجزيرة