صراع اللغات بالمغرب العربي

صورة من أحد أقسام في 1مدرسة جزائرية
الجهود الرسمية في بلدان المغرب العربية لتعليم لغة الضاد لم تنجح إلى حد كبير في جعلها عملية (الجزيرة)

كانت بلدان المغرب العربي فريسة الاستعمار الفرنسي طوال فترة قرن من الزمن، وعملت المؤسسة الاستعمارية على محو اللغة العربية من خلال عدة إجراءات تعسفية كفرض التعليم بلغتها والتعامل الإداري بلغة المستعمر، كما كانت فرص العمل متاحة للذين يجيدون اللغة الفرنسية وغيرها من الآليات التي تمكنها من فرض منطقها الاستعماري انطلاقا من المبدأ الذي مفاده "إذا أردت أن تقضي على هوية شعب فاقض على لغته"، وربما نجحت في ذلك إلى حد ما.

وحاولت السلطات السياسية القائمة في بلدان المغرب العربي الكبير بعد الاستقلال إعادة بعث اللغة العربية في وسط مجتمعاتها وفي أوساط النشء بصفة خاصة، مع محاولة إدماج العمال في المنظومة اللغوية التي ارتأتها هذه السلطات.

وعليه فرضت اللغة العربية لغة رسمية للبلاد والعباد، وحاولت بلدان مثل الجزائر تعميم التعريب فجلبت لذلك أساتذة من المشرق العربي ومن مصر بالتحديد محاولة تعريب الإدارات بل وفرض اللغة العربية لغة رسمية وحيدة في البلاد، الأمر الذي حتم على بعض الموظفين ممن كانت ثقافتهم فرنسية العودة إلى مقاعد الدراسة لتعلم اللغة الوطنية.

استمرت سياسة التعريب إلى وقت قريب، وتؤكد السلطات الرسمية في المناسبات الوطنية على الطابع الرسمي للغة العربية وتتعهد بحمايتها وتطويرها وتنمية استعمالها، وهي بذلك تؤكد على تعميق أواصر الانتماء إلى الأمة العربية الإسلامية، وتوطيد وشائج الأخوة والتضامن مع شعوبها الشقيقة.

لكن بعض المثقفين تنبهوا إلى أن الشباب الذين حضنتهم المدرسة المعربة لا يحسنون استعمال اللغة العربية، ولا يفقهون أصولها بل يسعون إلى خلق لغة جديدة لا هي بالفرنسية ولا هي بالعربية بل مزيج بين الاثنتين، وأكبر مثال عن ذلك لغة الرسائل الإلكترونية التي تكتب بالحروف الفرنسية ولكنها عربية المعنى، وربما كان هذا الإبداع نتيجة تأثر الشباب بحضارة الغرب وبفرنسا تحديدا.

‪من فعاليات الائتلاف الوطني من أجل اللغة العربية بالمغرب‬ (الجزيرة-أرشيف)
‪من فعاليات الائتلاف الوطني من أجل اللغة العربية بالمغرب‬ (الجزيرة-أرشيف)

إذا كانت الدولة تسعى جاهدة لتعليم أبناء الشعب اللغة العربية فهي لم تنجح إلى حد كبير في جعلها عملية، أو لنقل لم توفق في زرعها في المجتمع الذي كان يحبذ استعمال العامية بدل الفصحى لأنها أسهل في الفهم وأنجع في توصيل المعلومة.

إن تعريب الإدارات والمدارس والجامعات لا يدل على تبني الشعب هذا الخيار الذي ارتضته سياسة الدولة، لأن التعامل اليومي هو البوصلة الحقيقية التي تدل على نجاح مشروع التعريب في بلدان المغرب العربي، لأن أغلبية المجتمع والفئة الشبابية منها تسعى جاهدة لاستعمال اللغة الفرنسية الممزوجة باللهجة العامية كلغة التواصل اليومي لأنها أكثر وظيفية وأكثر مرونة من اللغة العربية الفصحى التي ابتعدت عن ساحة الاستعمال.

وعليه فالسوق اللغوية السائدة في مجتمعات المغرب العربي الكبير مزيج من الفسيفساء اللغوية لا تستطيع فهمها أو التحكم في صيرورتها (المتغيرة)، فالطابع الرسمي للغة العربية لا يجسده الواقع لأسباب ربما تكون محل دراسة سوسيوثقافية.

تؤكد الدراسات التي أجريت في هذا المجال أن السبب الرئيس في نكبة اللغة العربية بشمال أفريقيا يعود إلى العادات التي يتأثر بها الطفل في المنزل، فالأبوان يتعاملان بلغة مزدوجة أو مزيج من اللغة العامية واللغة الفرنسية، مما يحدث تشويشا في قدرات الاستيعاب لدى الطفل الذي هو مقلد بطبعه، وهي ظاهرة مقلقة جدا، لأن اللغة مرتبطة دوما بالهوية والتراث والأصالة وحضارة البلدان، فالتخلي عن لغة قوم سيؤدي حتما لاندثار ثقافته وعاداته على المدى البعيد باعتبار أن اللغة حاضنة للحضارة والهوية.

وقد يعزى عزوف الشباب عن تداول اللغة العربية بشكل صحيح إلى الأسباب التالية:

*ربما يرجع العامل الأكبر إلى الغزو الثقافي الغربي، إذ إن شبابنا لم يأخذوا من الغرب سوى الظواهر التي يحاربها المختصون في بيئتهم لعلمهم أنها بداية الانهيار لحضارتهم.

*يمكن أن نقول إن التطور التكنولوجي أو الثورة التكنولوجية كان له دوره الفاعل في تحفيز المجتمع على الابتعاد عن كل ما له صلة باللغة العربية، فاستخدام وسائل الاتصال الاجتماعية ساعد على انتشار هذه الظاهرة بين الشباب، وذلك من خلال الانفتاح على المجتمعات المتعددة التي جعلت استخدام اللغة الإنجليزية متطلبا ضروريا، وقد يكون الأمر صحيا هنا بشرط ألا يكون ذلك على حساب اللغة العربية والحد من استعمالها، ثم إن جل علوم التكنولوجيا تدرس في الجامعات باللغة الفرنسية أو الإنجليزية، مما جعل اللغة العربية تتعثر في هذا المجال.

رغم طغيان الفرنسية في موريتانيا لا تزال اللغة العربية حاضرة في الكتاب المدرسي(الجزيرة)
رغم طغيان الفرنسية في موريتانيا لا تزال اللغة العربية حاضرة في الكتاب المدرسي(الجزيرة)

من العوامل التي ساعدت على تبني لغة الغير ابتعاد اللغة العربية عن العصرنة والاستحداث، مما يبعد مستعمليها عن استخدامها وتوظيفها بشكل مستمر وفعال، ثم إن التهمة التي ألصقت باللغة العربية الفصحى والمتمثلة في كونها لغة الشعر لا لغة العلم وفرت الأرضية الخصبة لهجرها واستبدال لغات أخرى بها هي أكثر مرونة منها.

*لا يمكن أن نتجاهل تقلص دور الأسرة الذي كان يعتبر المؤثر الأول في سلوك الأبناء، وحلت محلها شبكات التواصل الاجتماعي التي مهدت لتفكك الأسرة من خلال الوقت الذي يقضيه كل فرد في متابعة جديد الشبكات، والتواصل مع العالم بلغة بعيدة كل البعد عن لغته الرسمية وبعيدا عن العلاقات الأسرية المباشرة، مما أدى إلى غياب كلي للمراقب الذي يدق ناقوس الخطر.

كما أن الحقيقة القائلة "المغلوب مولع باتباع الغالب" في ثقافته ولغته وطريقة لباسه وربما طريقة تفكيره أيضا من العوامل التي هيأت الشباب للعزوف عن لغة لا تملأ فراغه ولا تستجيب لتطلعاته المستقبلية، وهذا ما جعل اللغة العربية غائبة عن أو مغيبة.

ثم إن متطلبات سوق العمل تفرض التمكن من استعمال اللغة الفرنسية أو الإنجليزية، وهذا الأمر ولد الرغبة في تعلم اللغات التي تسمح بالفوز بمنصب عمل يحتاجه الشاب لتغطية مستلزمات الحياة.

ورغم ما سبق فإن اللغة العربية ستتبوأ مكانتها الطبيعية اللائقة بها في المستقبل وتصبح لغة عالمية لسببين رئيسيين: أولهما أنها لغة الدين الذي سيظهره الله على الدين كله "هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله"، وثانيهما أنها مهيأة ذاتيا لحمل هذه الرسالة الدينية الحضارية الإنسانية العالمية.

وهذه الحقيقة عبر عنها العلماء والمفكرون، ولأنها كذلك فقد أصبحت في نظر من ابتدعوا "الإسلاموفوبيا" خطرا على الغرب وحضارة الغرب، لأن منطق "العولمة الممنهجة" يرى أن من تميز عن الغرب حضاريا وثقافيا ولغويا يعد خطرا على الحضارة الغربية، ولما كان الكيان الإسلامي هو الأكثر تميزا عن الغرب وحضارة الغرب أصبح هو "العائق الأكبر" أمام أهداف العولمة، والمستهدف في الدرجة الأولى هو اللغة العربية باعتبارها لغة هذا الدين.

المصدر : وكالة الأناضول