"قاتل حمزة".. الطريق الخطأ إلى الحرية

ناصر يحيى

ناصر يحيى*

في سلسلة طويلة من الروايات المتميزة في الأدب الإسلامي المعاصر تحول التاريخ الإسلامي منذ بداية الرسالة حتى القرن العشرين إلى ينبوع عذب في يد الأديب والروائي الإسلامي الأكثر أهمية الدكتور نجيب الكيلاني فصاغ من أحداثه الكبرى ورجاله العظماء وآلامه وعثراته روايات أعادت الحياة للتاريخ وشخوصه، وكشفت بفنية رائعة أحداثا لم يكن كثيرون يعلمون عنها شيئا، ونفخت الروح في شخصيات كاد يطويها النسيان، وتعرضت للتشويه في إطار أعمال أدبية قدمت التاريخ الإسلامي بصورة مشوهة تثير الكآبة والاشمئزاز من أحداثه ورجاله: حروب ودماء، وخيانات ومؤامرات، ومجرد حكايات عشق غيرت مجرى التاريخ.

بين الحرية والعبودية 
في رواية "قاتل حمزة" مزج نجيب الكيلاني بين الحدث التاريخي والجدل الإنساني الشهير حول معنى الحرية الحقيقية بلغة شاعرية راقية أنطق فيها أبطال الرواية بمأساة الإنسان وحيرته في كل عصر وزمان تجاه هذه القيمة الإنسانية العظيمة التي تاهت العقول البشرية وهي تبحث عن حقيقتها، فمرة تظنها في المال والزينة، وثانية في اللهو والمتع الحرام، وثالثة في القوة والسيطرة وامتلاك كل شيء، وأحيانا هي كل ما سبق لو تيسرت أسبابه، بينما هم في الحقيقة غارقون في العبودية وقيودها الظاهرة والخفية حتى قمة رؤوسهم. 

انحاز الكيلاني كمسلم إلى المعنى الحقيقي للحرية التي يجدها أساسا ومنطلقا في عبودية الله وحده، والتحرر من كل قيد بشري وهوى على القلب وحريته

انحاز الكيلاني كمسلم إلى المعنى الحقيقي للحرية التي يجدها أساسا ومنطلقا في عبودية الله وحده، والتحرر من كل قيد بشري وهوى على القلب وحريته، أو كما عبر عنها الشاعر المسلم محمد إقبال في بيت شعري منفرد ترجمه الشاعر اليمني الأشهر محمد محمود الزبيري:

           "سجدة للإله تنجيك يا إنسان من ألف سجدة للعبد"

ولعل ذلك كان استلهاما لخلاصة كتاب العبودية لابن تيمية:

          "الحرية حرية القلب.. والعبودية عبودية القلب"

بطل الرواية وحشي بن حرب، العبد لدى إحدى أشهر الأسر القرشية في زمن الدعوة الإسلامية، وهو أنموذج يجسد الإيمان المزيف أن الحرية هي امتلاك القوة والمتعة، وهو في هذا كان ضحية لحالة الفراغ الروحي والانحراف عن الفطرة الإلهية، وضحية رمزية لجبروت السادة وطغيانهم على الضعفاء من الناس، الضعفاء الذين ألقت بهم حظوظهم وتقاليد وأعراف الإنسان الظالمة في محرقة العبودية الظالمة التي لا ترى في الرقيق إلا كائنات أقل إنسانية وأقرب إلى الحيوان منها إلى الإنسان، فسحقت أروحهم وشوهتها وشوهت معها المعنى الحقيقي للحرية.

وعندما ظهرت دعوة التوحيد والعبودية الحقة لله خالق الإنسان ومالكه نأى وحشي بنفسه عن نور الهداية، ورفض الإيمان بالرسالة التي أقرت المساواة بين الناس جميعا في الأصل الإنساني، وأنهم يحملون الروح نفسها التي نفخها الله في آدم أبي البشر، ظانا أن عبودية الله التي تحدث عنها الإسلام مثل عبوديته وأمثاله للسادة.

يصور الكيلاني في روايته وحشي كائنا كفر بكل المبادئ التي يمثلها السادة:

 "ما أفكر به هو مأساتي أنا.. عبوديتي الذليلة.. المبادئ وهم.. لا قيمة إلا بالقوة"

جهل وحشي أن الحرية ليست قضية فردية، وأنه لن يجد الحرية في مجتمع مكة المنحرف عن الفطرة الذي يقسم الناس إلى سادة لهم كل شيء، وعبيد ليس لهم شيء حتى الإقرار ببشريتهم، وظن أن السادة الذين لا يؤمنون بأنه إنسان أصلا سوف يعترفون بحريته، وأنه يمكن أن يكون مثلهم إن توفرت له الوسيلة، ولذلك لم يمانع في أن يعقد صفقة مع مالكه تكون ثمنا لحريته يقتل فيها حمزة عم النبي -صلى الله عليه وسلم- ثأرا لمقتل أحد السادة الذين أذاقوا أمثال وحشي صنوف القهر والإذلال.

ومن يومها بدأت مأساة وحشي، مأساة ضياع الطريق إلى الحرية الحقة نتيجة الأوهام والتصورات الخاطئة، فحمزة -أنموذج المسلم- كان أقرب إليه من سيده الذي حرضه، فهو يمثل الدين الجديد الذي أعلن أن الناس كلهم من أصل واحد ومن أب واحد، سواسية كأسنان المشط، وأن لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، وهو الدين الذي وجد فيه الأرقاء راحتهم وسلوتهم فيه، واعترافا بآدميتهم حتى كان بلال العبد السابق هو الإنسان الذي يصعد على ظهر الكعبة محاطا بالإجلال والاحترام ليؤذن للصلاة فيتقاطر المسلمون استجابة لصوته بخشوع وامتنان وطاعة.

الحر.. العبد
نجح وحشي في الحصول على حريته لكنه اكتشف أنها وهم كبير في مجتمع مكة الطبقي المتعفن، فلا السادة اقتنعوا به حرا يساويهم ولا هو عاش كالأحرار، فقد ظلت نفسه مغلولة بالعبودية لوهم القوة والمتعة، وفوجئ بحبيبته عبلة المسلمة سرا ترفض الزواج منه، وفوجئ بسيده السابق يرفض أن يبيع له عبلة احتقارا له لأنه بطلبه شراء شيء من ضمن ممتلكاته قد تجاوز حده ونسي أنه كان عبدا عنده اشتراه بماله.

نجح وحشي في الحصول على حريته لكنه اكتشف أنها وهم كبير في مجتمع مكة الطبقي المتعفن

وتتصاعد أزمة وحشي في ظل حريته الموهومة وقلبه العبد للهوى والأوهام، وينسى أنه حر فيفشي بنذالة سر عبلة لسيدها الذي يجن بدوره ويهبها لوحشي بشرط تعذيبها وإذلالها فيقبل الشرط ويحاول استخدام سلطته الجديدة لينال قلب الفتاة التي ترفضه وترفض كل نعيم يلوح لها به لأنها وإن كانت رقيقا في الظاهر إلا أن قلبها قد تحرر بالإسلام فصارت حرة حقا، وظل وحشي الحر في نظرها عبدا لكفره وخساسته ووشايته ورضاه أن يقتل غيلة وغدرا حمزة عم النبي رغم أنه يقول إنه لا شأن له بالحرب بين محمد وقريش.

لم يسعد وحشي بحريته المزعومة، وظل مرعوبا من انتقام المسلمين منه، وعجز عن رؤية الحق الأبلج الذي جذب الضعفاء والعبيد من كل مكان للإيمان به، وعندما انتصر الإسلام حاول الهروب لولا أن هناك من أيقظه من أوهامه ودله على الطريق الصحيح لنيل الحرية الحقيقية فلحق شعاعها حتى وقف أمام النبي ليكتب شهادة حريته الحقيقية وينالها من نبي الحرية:

– أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله

حرية لا تشترى بالمال الحرام ولا بصفقة خيانة وبيع للشرف والقيم.

ومن يومها صار وحشي حرا حقيقيا، ظل المسلمون كلما رأوه يتذكرون فاجعة قتله لحمزة لكن إسلامه منحه حصانة الحر فالإسلام يجب ما قبله، وسمح له بأن يسهم في صناعة التاريخ في جهاده ضد مسيلمة الكذاب وفي فتوحات الشام، والأكثر أهمية أن ملايين المسلمين صاروا كلما ذكروا اسمه تمتموا بـ"رضي الله عنه" إجلالا ومحبة له.
__________________
كاتب يمني

المصدر : الجزيرة