"قصص الحب والجنون والموت" مواسم الخيبة والضياع

غلاف قصص الحب والموت والجنون
غلاف كتاب "قصص الحب والجنون والموت" (الجزيرة)

هيثم حسين-لندن

يهندس الأورغواياني هوراسيا كيروغا (1878-1937) مجموعته القصصية "قصص الحب والجنون والموت" انطلاقاً من الثلاثية التي يثبتها في العنوان، ويبني على أساسها عوالمه التي تستلهم من الواقع غرائبه وتغلفه بسحرية تسم أدبه.

وهو الذي كان أحد الآباء المؤسسين لواقعية أميركا اللاتينية السحرية التي أصبحت مدرسة أدبية بحد ذاتها.

يجمع كيروغا في كتابه -الذي نشرته دار طوى في لندن بترجمة صالح علماني عام 2015- خيوط ثلاثيته في معظم قصصه، فالحب يمهد للجنون غالباً لديه، وهو جنون يعكس التخبط الذي تعيشه الشخصيات وتعانيه في واقعها، يكون في بعض الأحيان رحيماً حين يقترن بالدفع إلى نسيان المآسي المتراكمة واقعياً، وذاك الجنون بدوره يؤدي إلى موت مفجع، تتغير صوره ودروب الوصول إليه.

نهايات مرعبة
في قصته "فصل غرامي" يحكي كيروغا مختصر حياة بائسة، ومواسم الخيبة والنكسة والانكسار فيها، يقسمها إلى أربعة فصول: ربيع، وصيف، وخريف، وشتاء.

الفصل الحياتي لديه هو صورة عن عمر بأكمله، ويتجلى ذلك أكثر حين يقتفي أثر شخصيات قصته ويستعيد مصائرها المأساوية. فبطل القصة "نيبيل" ينحدر من أسرة ثرية، يرث أملاكاً كبيرة من أهله، يحب فتاة فقيرة، ويحاول أن يقترن بها، تكون لدى أهله تحفظات على ممارسات أمّها الشائنة.

تتكرر مآسي الموت المختلفة في قصص كيروغا، تتباين الحالات وتتلاقى في النهايات المختارة بعناية تعيد إلى النهاية التي اختارها الكاتب لنفسه، وهي انتحاره بعد إصابته بمرض خبيث

يبرز كيروغا كيف أن الابنة تؤخذ بجريرة أمها، وكيف أنها تقع في براثن الجوع والمخدرات والابتزاز بدورها تالياً، وذلك بعد انقطاع زمني يزيد على عقد كامل، يعود بعدها نيبيل إلى ماضيه بعد لقائه مصادفة بأم حبيبته السابقة، وتعرّفه إلى رثاثة ما انحدرت إليه، وغرقها في مستنقع المخدرات والجنس، ثم الرضوخ لطلبها بزيارة بيتها ولقاء ابنتها التي لم تتزوج بعد، وصدمته اللاحقة بحبيبته السابقة والتغيرات التي أثرت بها.

يختار كيروغا نهايات مرعبة لأبطال قصصه، ففي "فصل غرامي" مثلاً يبقي النهاية مفتوحة على واقع أشد قتامة في فصل مستقبليّ قادم، حين تترك الفتاة المدمنة على تعاطي المخدر بيت حبيبها، تستلم منه شيكاً بمبلغ معيّن يقودها إلى نفق شبيه بحياة أمها البائسة، وتمضي في طريق ينذر بالفجائع، تسير امرأة جريحة فقدت أمها وحبيبها، مثقلة بهموم تقض مضجعها وتبقيها مرتحلة في درب الخطيئة من مكان لآخر.

في قصة "السوليتير" يرسم القاص صورة أخرى من صور الحب والجنون، ويختار مِيتة مختلفة أكثر إيلاماً، كأنه يمعن في تصويره للألم والأسى للإشارة إلى حجمهما المتعاظم في الواقع.

الصائغ الفقير "قاسم" يصقل المجوهرات، يصممها، وزوجته الحسناء مسكونة بشغف مرَضيّ لاقتناء تلك المجوهرات، وارتدائها، في حين أن زوجها لا يملك ثمنها، ولا يستطيع شراءها لزوجته، وهي لا تنفك تحرضه على سرقتها والهرب بها، تعكر عليه أيامه ولياليه بهوسها المجنون بالمجوهرات.

يبلغ عشقها المجنون للمجوهرات درجة خطيرة، تدفع زوجها إلى جنون آخر، فالرجل لا يستطيع خيانة مهنته والأمانة الموكلة إليه، وفي الوقت نفسه يحب امرأته ولا يود تحطيم قلبها، كما أنه لا يستطيع تأمين ثمن الجوهرة النفيسة، ويقوده جنونه إلى طعن قلب زوجته وتلطيخ الجوهرة بدمها، كي يضع حداً لذلك الصراع الذي تدخله فيه، وذلك بعد أن وصل إلى طريق مسدود معها، واختار بذلك نوعاً من الانتحار والجنون لا يقل جنوناً عن الجشع الذي قيّد زوجته وأضاع عقلها وحياتها.

صيغ العبثية
في "وسادة الريش" تحضر صيغة أخرى من صيغ العبثية في اجتياح الهدوء المزعوم. عنوان القصة يشير إلى ثراء متوهم، ذلك أن وسادة الريش في المخيال الشعبي ترمز إلى الغنى والرفاهية، وإلى أن صاحبها من ذوي الحظ والحظوة معاً، لكن ذلك ينقلب في القصة إلى النقيض. فصاحبة وسادة الريش تكون مريضة لا يُعرَف سبب مرضها، تعاني حالة غريبة من الإعياء، تسير بها نحو حتفها في بضعة أيام بعد أن تلازم الفراش.

يدفع كيروغا قراءه إلى التساؤل عن مقاصده في اختياره صور موت مرعبة وكارثية لأبطال قصصه، ورمزية ذلك في الدفع إلى إيقاف ما يمكن إيقافه من منطلق الفزع وإثارة الاهتمام بتفاصيل صغيرة تتسبب بكوارث كبرى تخرج عن السيطرة

تكون الصدمة التي تبلغ ذروة الفجيعة والعبثية معاً، حين يكتشف المحيطون بها بعد موتها أن وسادة الريش كانت مسكونة بنوع معين من الحشرات، يمتص دماءها من رأسها، ويفرغ جسدها من الدماء، وتصبح تلك الحشرة بمثابة وحش قاتل يسكن الوسادة، ويكون اكتشاف ثقل الوسادة وتلطخها بالدماء مفاجئاً ومفجعاً، ودافعاً إلى التدبر والتفكر في الأحوال والمآلات والمصائر، ولا سيما أن وسادة الريش قد تكون حاضنة لحشرات فتاكة تسلب المرء حياته، ناهيك عن راحته وأمانه قبلها.

يبلغ كيروغا في قصة "العسل البرّي" درجة عالية من الإيلام، حين يصور بطليه وهما يلوذان بغابة يتذوّقان ما يظنان أنه عسل برّي، في الوقت الذي يكون ذلك صمغاً قاتلاً يشل الإنسان، ويكون هناك نوع من النمل يعرف بنمل الكوريكثيون الشره، يلتهم كل الكائنات الحية ويقضي عليها، ويدمر الأماكن التي يجتاحها.

يشير في خاتمة قصته إلى أنه ليس من الشائع أن تكون للعسل البرّي مثل  خصائص مخدرة أو مسببة للشلل، ولكن هناك شيء من ذلك. كما أن الأزهار ذات الخصائص التخديرية موجودة بكثرة في المنطقة المدارية، وطعم العسل نفسه يكشف في معظم الأحيان عن طبيعته، مثلما هو طعم صمغ الأوكالبتوس الذي خيل لبينينكاسا أنه يتذوقه.

تتجلى في قصصه "مع التيار"، و"الرجل الميت"، و"سيجارتنا الأولى"، و"الابن" و"التهاب السحايا الأولى"، و"القرد الذي قتل"، مفارقات القهر والخيبة والجنون، فالأحلام البسيطة لا تلبث أن تصطدم بحواجز الواقع وعوائقه الكثيرة، لتحوّل أصحابها إلى جثث حية متنقلة، تلجأ إلى وضع نهاية لمآسيها، تفقد الأمل وترضخ للجنون.

يدفع كيروغا قراءه إلى التساؤل عن مقاصده في اختياره صور موت مرعبة وكارثية لأبطال قصصه، ورمزية ذلك في الدفع إلى إيقاف ما يمكن إيقافه من منطلق الفزع وإثارة الاهتمام بتفاصيل صغيرة تتسبب بكوارث كبرى تخرج عن السيطرة، وتقود إلى الهلاك الفردي الذي يكون حلقة في هلاك يتسع رويداً رويداً، ليوغل في الإيذاء أكثر فأكثر.

تتكرر مآسي الموت المختلفة في قصص كيروغا، تتباين الحالات وتتلاقى في النهايات المختارة بعناية تعيد إلى النهاية التي اختارها الكاتب لنفسه، وهي انتحاره بعد إصابته بمرض خبيث، ومكوثه في المشفى، ووصوله إلى قناعة أن شفاءه مستحيل، فيضع حداً لحياته بتجرّع سم قاتل. تكون نهاية حياته كنهاية قصصه، تختصر حبه للحياة وتخليه عنها عقب يأسه منها، ويكون مسكوناً بجنون لاختيار موته.

المصدر : الجزيرة