البيئات الطاردة

إبراهيم صموئيل - لملخص المختار: هجرة المثقفين ـ أو تهجيرهم ـ تأتي جراء تضييق الأفق على إبداعهم في مختلف الحقول والميادين أو حصاره ومحاربته على نحو صريح

إبراهيم صموئيل

كي نتمكّن من معرفة الإجابة عمّا إذا كانت هجرة المثقفين العرب من بلدانهم وبالاً عليهم -وفق ما شاع في ثقافتنا- أم فرصة ذهبية لهم؟ لا بدّ لنا من معاينة أحوال منجزهم الفكري والأدبي والفني وهم في مهاجرهم أو في منافيهم على حدٍّ سواء, لأنّ الكاتب أدبه وفكره، والعالِمُ مشروعاته، والفنان أعماله، والموسيقي منجزاته, بالدرجة الأولى.

فإذا كانت هجرة عموم الناس تجري غالباً جراء ضيق العيش الذي يعانون منه في بلدانهم الأم، فمن المؤكد أن هجرة المثقفين -أو تهجيرهم- تأتي جراء تضييق الأفق على إبداعهم في مختلف الحقول والميادين, أو حصاره ومحاربته على نحو صريح.

من هنا أرى أن المرجع الأساس للنظر إلى الهجرة أو التهجير فيما يتعلّق بالمثقّفين يتركّز بشكل رئيس في ما آلت إليه أحوال منجز نشاطهم العقلي علماً كان أو أدباً أو فناً أو غير ذلك وهم في المهجر أو المنفى, وليس في العواطف أو المشاعر التي يسبغها عليهم غير المهاجرين.

لنستعد معاً أحوال منجز مجموعة من المبدعين العرب خارج بلدانهم على سبيل التمثيل لما سبق:
حين خرج محمود درويش من بلده عام 1971 متجهاً إلى القاهرة -ومن ثمّ إلى دول عديدة- هبَّت عاصفة من الآراء المعارضة في الوسطين الثقافي والسياسي, داخل فلسطين وخارجها، رائية إلى خروجه بمثابة هجرٍ للبيئة المانحة لشعره أسباب الحياة وطاقة المقاومة.

غير أن منجز درويش الشعري راح ينضج ويرتقي، يتعمّق وينتمي، يأتلق وينتشر إلى أن بات أحد الشعراء العظام في العالم بأسره وليس في دنيا العرب فقط.

المرجع الأساس للنظر إلى الهجرة أو التهجير فيما يتعلّق بالمثقّفين يتركّز بشكل رئيس في ما آلت إليه أحوال منجز نشاطهم العقلي

أسطوة الكمان
في باريس، وليس في سوريا، تجلّت عبقرية نجمي السكري، جرّاء ما لاقاه من التقدير لفنّه على آلة الكمان، ومن الإفساح في المجال أمام إبداعه حتى قال النقّاد والدارسون جراء فوزه بالمرتبة الأولى في مسابقة لموسيقيين كبار: "إن الكمان في الأسطورة هو آلة الشيطان ويكفي أن تستمع إلى نجمي السكري لتصدّق هذه الأسطورة".

وحوصر نصر حامد أبو زيد في بلده مصر, وجرى تكفيره, ووصل التعسّف بحقّه إلى صدور قرار قضائي بالتفريق بينه وبين زوجته جراء اجتهاداته الفكرية، فما كان إلا أن استقبلته هولندا استقبال المفكرين الكبار في العالم, ووفّرت له كلّ أسباب متابعة مشروعه الفكري الفذّ.

وفي ألمانيا، منذ هجرته إليها العام 1957 وإقامته فيها، أبدع مروان قصاب باشي أعظم لوحاته، فتصدّرت المعارض الكبرى، والمحافل الفنية، ووسائل الإعلام المختلفة إلى أن بات اسمه في ميدان الفنّ التشكيلي علماً على رأسه نار.

وهل من سلسلة منجزاتٍ علميّة كبرى تفوق ما حققه فاروق الباز, ومن مناصب هامة شغلها -بعد أن هاجر- إلى أنْ تُوّجت عبقريّته بتعيينه مديراً لمركز تطبيقات الاستشعار عن بُعد في أكبر وكالة فضاء في العالم "ناسا؟".

أيحتاج الأمر إلى أن نضيف ما أبدعه وصار إليه في حقل الرواية إبراهيم الكوني والطيب صالح، وفي حقل السينما الممثل عمر الشريف والمخرج مصطفى العقاد… وغيرهم المئات من المبدعين العرب في مختلف الحقول ممن هاجروا، أو هُجَّروا, من بلدانهم إلى مختلف دول الأرض ومناطقها؟

هل كلّ هذا الازدهار لنتاج العقول العربيّة خارج بلدانها الأمّ جاء مصادفة أم جرّاء تزاوج مواهبها الأصيلة مع بيئات معافاة, مقدّرة, ومفسحة في فضاء الحريّة؟

أين المنفى
والآن، ألا يجدر أن نتساءل تساؤل المقال السابق: "أين المنفى؟" أهو في البيئات العربية, السياسية والاجتماعية والاقتصادية, الطاردة والنابذة والضاغطة أم هو في بيئات المهجر المستقبلة والرحبة والخصبة؟

ثمّ، هل كلّ هذا الازدهار لنتاج العقول العربيّة خارج بلدانها الأمّ جاء مصادفة أم جرّاء تزاوج مواهبها الأصيلة مع بيئات معافاة, مقدّرة, ومفسحة في فضاء الحريّة؟

غزارة الإنتاج الثقافي والعلمي, ونوعيّته الرفيعة لدى المبدعين العرب المهاجرين  -وحتى المهجّرين منهم- يشيران إلى أن بلدان المهجر قد وفّرت لمواهبهم وعقولهم المناخ الصحّي والبيئة الخصبة لإظهار ما لديهم من كنوز الثقافة والعلم, ولو كان الحال غير ذلك لما أنتجوا سوى الغث أو الهباء. 

بالطبع, تبقى أوجاع الحنين لدى المهاجرين من المثقفين وغير المثقفين على حدّ سواء, بيد أن "الحنين وَجَعٌ لا يحنّ إلى وجع. هو الوجع الذي يسبِّبه الهواء النقيُّ القادم من أعالي جبل بعيد, وجع البحث عن فرح سابق. لكنه وجع من نوع صحيّ, لأنه يذكرنا بأننا مرضى بالأمل… وعاطفيون!" وفق تعبير محمود درويش في كتابه: في حضرة الغياب.
_______________ 
كاتب وقاص سوري

المصدر : الجزيرة