"المعلّقات" تنافس الشعر الفرنسي في موطنه

غلاف كتاب المعلّقات السبع

أنطوان جوكي-باريس

بينما تتراجع قراءة الشعر الفرنسي بشكل مقلق في موطن رامبو، ومعها مبيعات الدواوين الشعرية، تعيد دار "فاتا مورغانا" طبع الترجمة الفرنسية التي وضعها المستعرب الفرنسي بيار لارشيه لـ"المعلّقات السبع" بعد نفاد طبعتها الأولى.

ولا شك أن هذه النصوص العربية التي تعود إلى عصر الجاهلية ما زالت تمارس سحرا كبيرا على قارئها الأجنبي، رغم قدمها وصعوبة الإمساك بها. لكن هذا لا يفسّر لوحده السرعة التي نفدت بها ترجمة لارشيه التي صدرت للمرة الأولى عام 2000، وتتحلى بمميزات لا بد من التوقف عندها لفهم نجاحها.

تجدر الإشارة أولا إلى أن اقتراح المستعرب الفرنسي ترجمة جديدة لـ"المعلقات" ينمّ عن جرأة كبيرة، لأن هذه النصوص خضعت قبله لترجمات فرنسية عديدة وناجحة من جهة، ولأنها تطرح مشكلات كثيرة على مترجمها من جهة أخرى، ومن ذلك تحديد عدد هذه القصائد وقائليها وأصالتها ودلالاتها.

لكن حين نعرف أن لارشيه نشر قبل إقدامه على هذه الترجمة دراسات مرجعية لا تحصى عن هذه المشكلات، يصبح من الصعب التشكيك في مؤهلاته للقيام بهذه المهمة.

ترجمة إبداعية
لكن ما هو الجديد الذي تقدّمه هذه الترجمة التي تُعتبر من الترجمات الفرنسية القليلة الكاملة لـ"المعلقات السبع"؟

منذ القراءة الأولى يتجلى لنا تماسك مدهش على جميع المستويات في كل "معلّقة"، وبين "معلّقة" وأخرى، تماسك ناتج عن تفكيك لارشيه كل نص إلى مشاهد ومقاطع وأبيات مترابطة أو مستقلة دلاليا

نلمح في هذه الطبعة اختلافا ملموسا على أكثر من صعيد عن سائر الترجمات التي سبقتها، ويمكن تلخيص ذلك بنقاط أربع: دمج لارشيه التنويعات المتوفّرة من كل "معلّقة" في جسدها، واختياره الفقرة الشعرية التي تتألف من بيتين كمقابل للبيت الشعري العربي الذي يتألف من شطرين، واعتماده البحر الإسكندري للإمساك على أفضل وجه بإيقاع القصيدة، وتركيزه على العناصر التي تمنح القصيدة بنيتها، وبالتالي تماسكها.

ولتثمين قيمة هذه الخيارات، لا بد من قراءة أولى لـ"المعلّقات" بصوت عال، ومن دون التوقف عند الحواشي الغزيرة التي ترافق كل نص، ومن قراءة ثانية مع الحواشي. قراءتان تبيّنان أن الترجمة التي وضعها لارشيه هي ترجمة عالِم في الشعر وشاعر معا.

فإذ تكشف سيرورة الترجمة عن معرفة كبيرة بأصول النظم الشعري وقواعده وأدواته، فإن ملامح نتاج هذه الترجمة لا يمكن ردّها حصرا إلى منهج عمل لارشيه، بل تعكس أيضا مهارات نظمية فريدة لديه.

ومنذ القراءة الأولى، يتجلى لنا تماسك مدهش على جميع المستويات في كل "معلّقة"، وبين "معلّقة" وأخرى، تماسك ناتج عن تفكيك لارشيه كل نص إلى مشاهد ومقاطع وأبيات مترابطة أو مستقلة دلاليا وبنيات نحوية ووحدات مفرداتية وصوتية، إلى جانب تحليله هذه العناصر في الحواشي التي لا بد من قراءتها نظرا إلى تشكيلها جزءا مهما من عملية تفسير المعلّقات، وإلى كشفها هاجس الوفاء للنص الأصلي.

أسلوب فريد
وحول مسألة الوفاء هذه، تجدر الإشارة إلى أن ثمة بحثا بجميع الوسائل لبلوغها من قبل لارشيه الذي يستكشف النص الأصلي لكل "معلّقة" بتحكّم يعكس معرفة دقيقة باللغة العربية وقواعدها ونحوها.

أفضل شهادة على قيمة هذه الترجمة هي المقدمة التي رصدها لها المستعرب الفرنسي الكبير أندريه ميكيل، ويقرّ في نهايتها بتفوّق لارشيه على جميع الذين حاولوا نقل هذه النصوص إلى الفرنسية

ويتبع هذا البحث التأويلي حركتين: تفكيك تحليلي للنص الأصلي، وإعادة تشييد توليفية له -باللغة الفرنسية- لا تخلو من الإبداع.

وهذا ما يقودنا إلى أسلوب لارشيه الفريد الذي تثريه جميع أبحاث المستعرب حول النص الأصلي من دون أن تمسّ بشعريته. ويسهّل هذا الأسلوب على قارئ "المعلّقات" ولوجها وفهمها، وفي الوقت نفسه يجعله يتذوّقها ويستمتع بها كروائع شعرية لم تفقد شيئا من ألقها رغم مرور قرون طويلة على كتابتها.

ولعل أفضل شهادة على قيمة هذه الترجمة هي المقدمة التي رصدها لها المستعرب الفرنسي الكبير أندريه ميكيل، ويقرّ في نهايتها بتفوّق لارشيه على جميع الذين حاولوا نقل هذه النصوص إلى الفرنسية، لأنه "يضيف على معرفته التامة بالمعنى هاجسا ثابتا للعثور، بالفرنسية على تقطيع شعري، بل على تنفّس يتناغم مع تنفّس الشاعر وفقا لحالاته (…)".

وتجدر إلى أن "المعلّقات" التي نقرأها في كتاب لارشيه تعود بالترتيب إلى عنترة بن شداد وامرؤ القيس وطرفة بن العبد وزهير بن أبي سلمى وعمرو بن كلثوم والحارث بن حلّزة ولبيد بن ربيعة.

المصدر : الجزيرة