"وجه الله".. الإيراني مصطفى مستور وأسئلة الوجود

غلاف كتاب وجه الله

هيثم حسين

يقارب الإيراني مصطفى مستور في روايته "وجه الله" مواضيع فلسفية وحياتية عبر عدة محاور، منها حالة الشك والإيمان التي تقود المرء في حياته، وكيف تؤثر في الفرد والمجتمع، إضافة إلى دراسة بعض الحالات التي تتداخل فيها الأسباب والدوافع المؤدية إلى القيام بأفعال بعينها، كحالة الانتحار التي يبحث في دوافعها الاجتماعية، وارتباطها بعناصر ومؤثرات داخلية.

يظهر مستور في روايته -التي نشرتها دار "تنوير" بترجمة غسان حمدان (2015)- أن الشك في كل الأمور والأشياء والتصرفات يقود الإنسان إلى جحيم يهندسه بنفسه ويؤثثه باليأس بالتقادم، ويجد أن ذلك يبقي الإنسان مرتهنا لوساوسه وبعيدا عن رسالته الإنسانية المأمولة، يضيّع معها بوصلته ويفقد أثر الآخرين، وتتعاظم عزلته وقلاقله، فيختار درب الضياع والوحشة المتربص به.

غربة وضياع
يتحدث بطل الرواية يونس عن صديقه مهرداد العائد من أميركا، يتعرف على حزنه لمرض زوجته ووضع ابنته الوحيدة وحالته الكئيبة، ويتذكر أيامه السابقة حين كان يكتب الشعر لعشيقاته المتخيلات، ويصارحه بقلقه وتشتته وضياعه، وكيف أن زوجته جوليا هي دائما متقوقعة على نفسها، وتقول إن لديها أدلة كثيرة تُثبت فيها أنها يجب ألا تكون على قيد الحياة، وبسبب ذلك هي دائما تشعر بالغربة وتبحث عن سبب وجيه لوجودها.

بطل الرواية يتحدث عن مأزقه الوجودي ورسالته، وأنه ينبغي قبل الرحيل أن يترك أثرا، وذلك أنه إن لم ير الآخرون أثر قدميه فلن يعود موجودا، وهو لا يريد أن يكون مثل معظم الناس الذين يأتون ويذهبون ولم يفعلوا شيئا

يشفق يونس على صديقه مهرداد ويواسيه قائلا له "أنت تعرف معنى الحياة أفضل مني.. الحياة تعني هذا وحسب.. لا أريد أن أشفق عليك، ولكن أحيانا تحدث أشياء في الحياة لا نستطيع أن نمنع حدوثها.. هل تفهم؟ لا نستطيع! وعدم القدرة يكون التفسير الوحيد الذي يمكن أن نقدمه".

كما يقدم يونس أطروحته حول الدكتور محسن بارسا الذي انتحر، يقتفي أثره وكأنه بصدد إجراء تحقيق ثان أكثر تفصيلا عن انتحاره المفاجئ، وتفسير الحالة انطلاقا من قراءته المختلفة لها.

ويتحسر بطل الرواية على انتحار الدكتور محسن، ويؤنب نفسه قائلا: إن لم تستطع تفسير موت آدمي فلماذا أنت حي؟ ثم يتصفح ملف قضية انتحار بارسا، فيجد تعليقات المحقق فيضي في أواخرها، ففي اعتقاده أن العمل الفكري القاسي والعزوبة ويأسا مجهولا.. كل ذلك أجبر بارسا على الانتحار. ويتساءل يونس: ما هو هذا "اليأس المجهول"؟

يؤكد بطل الرواية متحدثا عن مأزقه الوجودي ورسالته أنه ينبغي قبل الرحيل أن يترك أثرا، وأنه إن لم يترك منه شيئا فمن سيعرف عنه شيئا بعد ذلك، وإن لم ير الآخرون أثر قدميه فلن يعود موجودا، ولكنه لا يريد أن يكون عديم الوجود، لا يريد أن يكون مثل معظم الناس الذين يأتون ويذهبون ولم يفعلوا شيئا ما وليس لهم أي اعتبار في التاريخ، ولا يريد أن يكون عضوا مبهما في تاريخ البشرية.

يُسكن مستور أبطاله بالحيرة والضياع، فمهرداد مثلا يعاني الأمرّين، ونراه يقول إنه ما زال أسير أسئلة من قبيل "ماذا يجب أن نفعل؟ ومن أين نبدأ؟". ويحضر نوع من السجال بين أبطال الرواية حول المعرفة والجهل، وكيف أن سيل الأنباء يجعل معرفة الإنسان مضطربة، وعندما تصبح معرفة شخص ما مضطربة، يصبح هو أيضا عاجزا. ويرى أحدهم أن المعرفة المضطربة أسوأ من الجهل، لأن هناك راحة في عدم المعرفة لا توجد في المعرفة.

حضور الأمل
ينتقل مصطفى مستور بين الفصل والآخر للحديث عن الوجود وتوصيفه، حيث يرى من مناظير أبطاله أن الوجود طبقة فوق طبقة، ودهليز داخل دهليز، ومليء بالأسرار والتعقيدات، وأنه لفهمه يجب أن تكون إنسانا جيدا.

كما يذكر الروائي أن الوجود سخي بحيث يعطي المرء فرصة جديدة كي يبدأ من جديد، وهناك خيارات كثيرة، وهذه الخيارات مثل دهاليز متداخلة دائما أمامه.

الرواية ترسل رسالة مفادها أن البراءة هي التي تنقذ العالم من مآسيه وأحزانه، وتتعرف البراءة على جمال الحياة وبهجتها في عيون الأطفال، وكأن الانسياق وراء الهموم يساهم في تعتيم وجوه السعادة وأبوابها ويسد الدروب إليها

يفلسف مستور شتى تفاصيل الحياة، يعتقد على لسان بطله المنتحر أن البشر ما هم إلا مجموعة من التصرفات، وأن الوزن المعنوي لأي شخص هو مجموع أوزان تصرفاته. ويبدو أن كل خيار يمثل خطا نرسمه على الصفحة البيضاء لوجودنا، وأن الكثير من الناس الذين ليست لديهم خيارات جيدة يرسمون مجموعة من الخطوط المعوجة وغير المفهومة طول حياتهم وليس لها أي معنى واضح، ولكن أصحاب الخيارات الصحيحة ستنتج تصرفاتهم خطوطا متوازنة وذات معنى، شيئا مثل لوحة مرسومة.

يذكر أن بطل الرواية يؤلف كتاب "التحليل الرياضي للمفاهيم الإنسانية"، ويعتبر أن غايته منه أن يبين أن المفاهيم الإنسانية يمكن أن تقاس مثل الكميات الفيزيائية ويكون لها معنى، وتراه يسعى في هذا الأثر إلى ربط العلوم الفلسفية والعلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية حتى يمزجها معا.

يعيد مستور الأمل والتفاؤل في نهاية الرواية، فبعد مجموعة من الأحداث المؤسفة كغربة بطله يونس واقتفائه لأثر الدكتور المنتحر، وتوقفه عن إكمال أطروحته، وبالتالي توقف مشروع زواجه، ثم محاولته الانطلاق من جديد وتغيير حالته، وكذلك وضع مهرداد اليائس وزوجته المريضة، وتأرجحه الواقعي بين الوطن والمهجر، بين اليأس والأمل، بين الحب والفقد، يشرع في العثور على مخارج للمآزق التي تجد الشخصيات نفسها في قيودها.

يكون الأمل معقودا على طائرة ورقية لطفل بريء، وتكون أبلغ رسالة على أن البراءة هي التي تنقذ العالم من مآسيه وأحزانه، وتوصل أشد الرسائل تعقيدا وتفككها وتتعامل مع الوجود بأكمله بأريحية، وتتعرف البراءة على جمال الحياة وبهجتها في عيون الأطفال، وكأن الانسياق وراء الهموم يساهم في تعتيم وجوه السعادة وأبوابها ويسد الدروب إليها.

يجدر بالذكر أن مصطفى مستور ولد يوم 11 سبتمبر/أيلول 1964 في مدينة أهواز الواقعة على بعد 800 كلم جنوب غربي طهران، وتخرج عام 1989 في فرع الهندسة المدنية، ولكنه تابع دراساته في الأدب.

ونشر مستور العديد من الأعمال القصصية والروائية، وقد تم اختيار روايته بوصفها أفضل روايات عامي 2001 و2002 ونالت جائزة القلم الذهبي، وتمت طباعتها عشرات المرات، وقد كتب نقد كثير حولها في وسائل الإعلام، واهتم مخرجون بتجسيدها سينمائيا.

المصدر : الجزيرة