أجمل مراثي العقاد.. قصيدة جميلة والميت كلب!

ناصر يحيى ..شهرة كتابات العقاد الفكرية والأدبية غلبت على شعره، وجنت صفات المفكر والأديب والفيلسوف على صفة "الشاعر" المحببة إلى نفسه
ناصر يحيى*

قبل 126 عاما وتحديدا في 28 يونيو/حزيران 1889، ولد في أسوان بصعيد مصر مولود سيكون له شأن في تاريخ الفكر والأدب في بلده ومنطقته العربية، وهو الأديب والمفكر الموسوعي الأستاذ عباس محمود العقاد الذي أثرى المكتبة العربية بعشرات من الإبداعات في شتى مناحي الفكر والشعر والأدب والإسلاميات خاصة (صدر له بعد وفاته 16 كتابا متنوع الاهتمامات).

وعلى غزارة الإنتاج الشعري للعقاد، فإن كثيرين يجهلون هذا البعد من أدبه، رغم أنه طاف في سماوات الشعر بعشرة دواوين كانت محطة تجديد -شكلا ومضمونا- في الشعر العربي المعاصر.

غير أن شهرة كتابات العقاد الفكرية والأدبية غلبت على شعره، وجنت صفات المفكر والأديب والفيلسوف على صفة "الشاعر" المحببة إلى نفسه!

وربما ساعد على ذلك ما اشتهر عن أسلوبه العميق جدا إلى درجة التعقيد والغموض أحيانا، وميله إلى تكثيف أفكاره في عبارات مركزة بعيدا عن الزيادة والإسهاب، وهذه الحالة وإن كانت من النوعية التي يمكن تقبلها في النثر فإنها تتجافى مع حلاوة الشعر، وطلاوة كلماته، وجمال صوره، وموسيقى قوافيه.

يضاف إلى ذلك أن العقاد مزج شعره بالخواطر الفكرية، والتأملات المنطقية، والحالات النفسية، فقد جاء شعره -على حد تعبير الأستاذ سيد قطب في كتابه "كتب وشخصيات"- محروسا بالوعي المستيقظ أو المنطق الواعي للعقاد، على حساب الحيوية المتدفقة وتعبيرات النفس الحية.

بل تمنى سيد قطب لو أتيحت له فرصة جمع قصائد العقاد التي بلغت بها الحيوية قمتها فجرفت المنطق الواعي وحررت معالم الإحساس والتصور من حصاره الجامد، في ديوان خاص يسميه "الشعر في ديوان العقاد".

بين رثاء ورثاء
في الموت وفراق الأحباب تتاح للشعر مناسبات للرثاء والذكريات الحزينة، حيث تتدفق الأحاسيس بلا حواجز ولا وعي، وقد امتلأت دواوين العقاد بكثير من المراثي التي عكست فجيعته برحيل رفاقه وأصدقائه من نجوم المجتمع المصري: ساسته وأدبائه وفنانيه ومبدعيه في شتى المجالات.. حتى تكاد تشكل هذه المراثي كتابا خاصا في شعر العقاد يجوز تسميته "كتاب الموت"!

سيد قطب تمنى لو أتيحت له فرصة جمع قصائد العقاد التي بلغت بها الحيوية قمتها فجرفت المنطق الواعي وحررت معالم الإحساس والتصور من حصاره الجامد، في ديوان خاص يسميه "الشعر في ديوان العقاد"

وعلى كثرة قصائد الرثاء العقّادية، فإن قصيدته في رثاء كلبه الأثير "بيجو" تبدو كواسطة العقد، شاعرية وجمالا تصويريا وإنسانية أيضا. ولا تكاد تضاهيها في الروعة حتى قصائده في سعد زغلول، معبوده السياسي، ولا في خله ورفيق عمره وجهاده الأدبي إبراهيم المازني.

وفي رأينا أن هذه القصيدة لا تضاهيها حتى قصيدته في رثاء الأديبة مي زيادة التي وصفها الأستاذ سيد قطب بأنها "خير رثاء كتبه العقاد فهي في قمة شعره الشجي، والإيقاع الذائب لهفة وحنينا".

والحق أنه شتان بين رثاء العقاد لمي زيادة ورثائه للكلب "بيجو"، فالثانية تفوقت عليها معنى وموسيقى، بل تفوقت عليها قصيدة العقاد في رثاء الزعيم المصري محمد فريد الذي وافته المنية في منفاه فنعاه بشعر جميل جاء فيه:

أطلقتَ وجداني ومثلك يُطلقُ … فالنفس تَأْلَمُ والجوانح تخفقُ
مرّت بيَ الأيام أنكر كل ما … يبدي الخيال ويعيد المنطقُ
أسفي عليك وقد تقسّمك الضنى … والشوق والألم الملحُّ المصعقُ
في عالم يسع المدائن والقرى … فإذا طلبت الحق فهو المأزقُ

أما قصيدة العقاد في رثاء الأديبة مي زيادة والتي جاءت في تسعين بيتا، فقد غلب عليها عاطفة الفراق والفقد، لكنها بدت إنشائية تلامس المظاهر الجميلة للفقيدة حتى تكاد تكون قصيدة غزل وتشبيب:
أين في المحفل ميٌّ يا صحاب؟ … عوّدتنا ها هنا فصل الخطاب
عرشها المنبر مرفوع الجناب … مستجيب حين يدعى مستجابْ
رحمة الله على ميّ خصالا … رحمة الله على ميّ فعالا
رحمة الله على ميّ جمالا … رحمة الله على ميّ سجالا
             كلما سجل في الطرس كتابْ

دموع على قبر كلب!
كثيرة هي حكايات تعلق الإنسان بالحيوان -وخاصة الكلاب- إلى درجة غير معقولة من الحب والألفة والوفاء.

ومع أن حياة العقاد مع الكلب "بيجو" لم تعمر طويلا، وهو أصلا وضع لديه لحل مشكلة ابن صديق له مرض فأرادوا إبعاد الكلب عنه، فإن العقاد وجد في الكلب أنموذجا للوفاء والألفة والأمن والود، ربما كان المفكر يفتقدها في وحدته بلا عشير ولا أنيس!

في رثائه لكلبه الوفي، لم ينشغل العقاد بوصف جماله ولا حضوره كما فعل في رثاء مي زيادة، بل فاضت أحزانه من الكلمة الأولى، وتدفقت مشاعره حيوية جياشة بلا وعي من أول بيت إلى آخر بيت

وفي رثائه لكلبه الوفي لم ينشغل العقاد بوصف جماله ولا حضوره كما فعل مع مي زيادة، بل فاضت أحزانه من الكلمة الأولى، وتدفقت مشاعره حيوية جياشة بلا وعي من أول بيت إلى آخر بيت:
حزنا على بيجو تفيض الدموعْ
حزنا على بيجو تثور الضلوعْ
حزنا عليه جهدَ ما أستطيعْ
وإنّ حزنا بعد ذاك الوَلوع
والله -يا بيجو- لحزن وجيعْ

ثم في 35 بيتا من خمسين هي مجمل أبيات القصيدة، راح العقاد يرسم لوحات حزن ووفاء وذكريات لكلبه الوفي، كيف يستقبله عند عودته "كأنه يعلم وقت الرجوع"، وكيف يسابقه ويسامره.. وكيف يداري أصابعه عن التحف.

كما يتذكر يوم مرضه وجاءه يخدش باب الغرفة بأظافره يستغيث به بلسانه الأبكم ونظراته الرحيمة!

مات الكلب "بيجو" فترك منزل الكاتب الجبار غارقا في الخواء يشتاق إلى نباحه وصوته المزعج، ولو لنبحة واحدة:
حزنا عليه كلما لاح لي
بالليل في ناحية المنزل
مسامري حينا ومستقبِلي
وسابقي حينا إلى مدخلي
كأنه يعلم وقت الرجوعْ

ثم يكمل العقاد مرثيته:
أبكيك أبكيك وقل الجزاءْ
يا واهب الود بمحض السخاءْ
يكذب من قال طعام وماءْ
لو صح هذا ما محضت الوفاءْ
لغائب عنك وطفل رضيعْ

ويشير العقاد في البيت الأخير إلى أن "بيجو" لم يمنح وده له بسبب الطعام، فهو لم يكن يطعمه. وفي المقابل كانت علاقته مع الطباخ النوبي سيئة بسبب كراهيته للكلاب، رغم أنه هو الذي يطعمه ويسقيه.. وكذلك منح "بيجو" وده للطفل ابن صديقه رغم أنه فارقه طويلا بسبب المرض.
_______________
* كاتب صحفي يمني

المصدر : الجزيرة