"المتحرر من سلطة السواد".. حكاية فلسطينية من الجزائر

غلاف رواية المتحرر من سلطة السواد

الخير شوار-الجزائر

شكلت الألوان والأشكال الهندسية حضورا واضحا مثلما حضرت القضية الفلسطينية من خلال قصة إنسانية بسيطة في رواية "المتحرر من سلطة السواد" للجزائري عبد المنعم بن السايح التي صدرت سنة 2015 عن منشورات "الرابطة الولائية للفكر والإبداع" بمدينة الوادي في الجزائر.

وتبدأ أحداث الرواية من هواجس داخلية لطفل فاقد للبصر، ونغوص شيئا فشيئا داخل عالمه الصغير، ولا نعرف جنسيته الفلسطينية إلا في النصف الثاني من النص.

وكان يمكن أن تحدث تلك القصة في أي مكان أو زمان، لكن السارد كشف عن ذلك لاحقا، لنتساءل بعدها إن كان ذلك العمى الذي تحدث عنه منذ البداية حقيقة أم مجازا، وتتعدد الاحتمالات حتى تصبح القراءة الثانية ضرورية مع توالي الحقائق، وبحثا عن مستوى آخر من التلقي، مع أن اللغة التي كتبت بها الرواية بسيطة أقرب إلى عفوية الطفولة مع بعض العبارات الكثيفة التي تقتضيها الشعرية المطلوبة في مثل هذه النصوص.

ويزداد النص كثافة عندما يتعذر علينا البصر من وراء عيني الطفل الضرير، بل نحاول معه تحويل الأشياء إلى ألوان وأشكال هندسية مختلفة حتى تصبح الحياة ممكنة، وكأن العمى هو المعادل الموضوعي للحصار الذي يعاني منه أمثال ذلك الطفل، وراحوا يتحايلون عليه بشتى أنواع المقاومة، وربما هذا ما أرادت الرواية قوله عبر ذلك المونولوغ الذي امتد عبر صفحات تلك الرواية القصيرة.

أشكال وألوان
دون مقدمات تختفي كل الأشياء وتبدأ رحلة السفر "في فوضى الألوان" عندما يتحول الطفل نور الدين ضعيف البصر وصاحب النظارات الكثيفة الذي كان زملاؤه يتندرون بمناداته بـ"ذي الأربع أعين" إلى صاحب عينين بلا ضوء بعد تعرضه لاعتداء أثناء مباراة في كرة القدم التي كان يعشقها إلى حد الجنون.

الطفل الأعمى نور الدين بدأ حياة جديدة مليئة بالألوان التي غطت على السواد، وتحولت الكثير من الأشياء في عقله إلى أشياء هندسية مختلفة الأحجام والأشكال

ويعتقد نور الدين أن حياته تحولت إلى ظلام دامس وانتهى كل شيء، غير أن الأمر لم يكن إلا بداية عندما أخبره أستاذه أن الأمر لا يختلف مع راكب القطار إذا كان يرى ما هو خارجه أو تعذر عليه ذلك لسبب من الأسباب.

ورغم أن الطفل أجاب بلغة يائسة "أنا قطار بلا مقود ولا مكابح، لقد نفد الوقود وانطفأت أضواء المدينة، فإلى أين سأتوجه؟ أنا قطار ذابت تحته السكة فتاهت عجلاته" فإن ذلك كان مجرد مكابرة ظرفية.

وبدأ الطفل نور الدين حياة جديدة مليئة بالألوان التي غطت على السواد، وتحولت الكثير من الأشياء في عقله إلى أشياء هندسية مختلفة الأحجام والأشكال، وأصبحنا نرى معه العالم من خلال عيون خفية تبصر عوالمنا الداخلية، ومعه نكشف هويته الفلسطينية وهو يتحدث عن والده الفنان الذي يتعامل مع الألوان ولا ينتمي إلى أي لون سياسي.

يقول الطفل "لا حزب لأبي إلا حزب الألوان، ولا طائفة له إلا الجمال، عيناه لا تبصران إلا فلسطين..".

رواية وقضية
ولئن كانت الحكاية في فصولها الأولى طفولية كأنها بمعزل عن الزمان والمكان إلا أنها تغوص شيئا فشيئا في القضية الفلسطينية من زاوية طريفة، ومع مرور الوقت يتلاشى حلم كرة القدم في ذهن الطفل وتتبلور الرؤية رغم حلكة السواد لتترجم تلك الأشكال والألوان إلى لغة الكلمات ونشهد ميلاد روائي تحرر -بالفعل- من "سلطة السواد" كما جاء في عنوان الرواية، وكأن كل ما حصل هو رواية داخل رواية كما هو معروف في لعبة الصناديق.

ليس غريبا أن تتناول رواية جزائرية جديدة لروائي شاب القضية الفلسطينية، فالمتن الروائي الجزائري مليء بالأمثلة على ذلك كما فعل واسيني الأعرج وأحلام مستغانمي وياسمينة خضرا

وفي الرواية نقرأ عبارة يمكن أن تلخص كل شيء، يقول فيها "يرى الأعمى الظلام، والبصير جداول من قوس قزح، أما أنا فأرى شيئا آخر"، وكأنه في منزلة بين العمى والإبصار.

وليس غريبا أن تتناول رواية جزائرية جديدة لروائي شاب القضية الفلسطينية، فالمتن الروائي الجزائري مليء بالأمثلة على ذلك، حيث كان الشاعر الفلسطيني زياد أحد أهم شخوص رواية "ذاكرة الجسد" لأحلام مستغانمي، وسبق لواسيني الأعرج أن أصدر رواية فلسطينية كاملة بعنوان "سوناتا لأشباح القدس"، كما اقترب الروائي الذي يكتب باللغة الفرنسية المثير للجدل ياسمينة خضرا من القضية الفلسطينية في عمله "الاعتداء"، وأصدر الروائي رشيد بوجدرة في بداية سبعينيات القرن الماضي كتابا كاملا بعنوان "يوميات فلسطينية".

ولا تتوقف القضية الفلسطينية في المتن الروائي الجزائري عند هذه الأسماء وتلك التجارب فما زال كثير من الجزائريين يرددون عبارة منسوبة للرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين يقول فيها "نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة".

المصدر : الجزيرة