سعيد خطيبي.. رحالة في "جنائن الشرق الملتهبة"

غلاف كتاب جنائن الشرق

هيثم حسين

بعين الروائي الراصد والصحافي الدقيق، يؤرخ الجزائري سعيد خطيبي في كتابه "جنائن الشرق الملتهبة" رحلته إلى بلاد الصقالبة، مرتحلا بين عدة مدن، ناقلا مشاهداته ومعايشاته، ومدونا ملاحظاته وقراءاته للواقع، ويعود إلى التاريخ السياسي والأدبي والفني للمدن التي يزورها، ينقل معه قارئه في رحابها، واصفا دفء الأمكنة وحميميتها تارة، وبردها ووحشتها تارة أخرى.

يستهل خطيبي كتابه الحائز على جائزة ابن بطوطة للرحلة المعاصرة 2014/2015 والصادر عن "دار السويدي" في أبو ظبي (2015)، بالتنويه بأن الصدفة وحدها قادته إلى بلاد الصقالبة، إذ كان في مهمة صحافية حوّلها إلى رحلة أدبية وفكرية.

وعبر الكاتب الحدود بين ليوبليانا، غراد، زغرب، سراييفو، سربرنيتشا، بلغراد، وصولا إلى كييف، بحثا عن الملامح الحقيقية لدول تجمع بينها الجغرافيا، وتفرقها الصدامات الدينية والإثنية حسب توصيفه، وراحلا في تاريخها ونفسيات أهلها وفلسفتهم في الحياة، والأدب والفن، والحرب، ونظرتهم إلى واقعهم ومستقبلهم.

معالم وملامح
يقول خطيبي إن أرض الصقالبة الواقعة شرقي وجنوب شرقي أوروبا، لم تعرف معنى الطمأنينة منذ بداية القرن العشرين، فقد عاشت سلسلة من الصراعات الدامية، ناهيك عن النزاعات والانشقاقات والمناوشات المسلحة التي تلت سقوط يوغسلافيا، ويجد أن تلك البلاد تتقاطع مع بلاد العرب تاريخيا في خضوعها للدولة العثمانية، كما يرى أن هناك ميزات مشتركة تجمع بينهما يحاول رصد بعض منها في رحلته.

خطيبي اكتشف أن السفر لا يقاس فقط بالمسافات، وإنما أيضا بالحالات النفسية التي يستشعرها المرء، ويستشهد بمقولة الفرنسي إيبوليت تاين: نحن نسافر لتغيير الأفكار، لا لتغيير المكان

يذكر الكاتب أنه اكتشف بعد ثلاثة أسابيع من ترحاله أن السفر لا يقاس فقط بالمسافات، وإنما أيضا بالحالات النفسية التي يستشعرها المرء، والتي تختلف بالانتقال من مكان إلى آخر، سواء كان قريبا أو بعيدا، ويجد أن السفر الأكبر ليس سفرا في الجغرافيا، بل هو سفر يعيدنا إلى ذواتنا، ويستشهد بمقولة الفرنسي إيبوليت تاين "نحن نسافر لتغيير الأفكار، لا لتغيير المكان".

ويرسم معالم المدن، مكتباتها، متاحفها، ويلتقي بأعمال أدباء قرأ لهم، فيشعر أنه يلتقي بأصدقاء قدامى له في مدن بعيدة، كحالته وهو يبحث بين رفوف مكتبة، فيصادف رواية "تومبيزا" لمواطنه رشيد ميموني بين كتاب عالميين بالسلوفينية.

يصف الكاتب تلك اللحظة بأنها كانت لحظة حميمة أشبه بلقاء صديق أو حبيب بعد غياب طويل، وأنه شعر بافتخار ممزوج بكبت لأنه لا يستطيع أن يكلم صاحبة المحل عن الكتاب، ولا أن يخبرها بما يعرفه عن ميموني على أنه كاتب كبير، وأن هناك في الجزائر دارا للثقافة تحمل اسمه، وغير ذلك مما يستحقه من اعتبار وتقدير.

يتوقف خطيبي في رحلته عند شخصيات أثرت في تاريخ المدن التي زارها، والتاريخ الحديث للعالم بقسطها الوافر، كحديثه أثناء رحلته إلى غراد عن الزعيم تيتو (1892-1980) الذي تحول من مناضل شيوعي عادي إلى رئيس واحدة من أكبر دول العالم الثالث، ليتحول في النهاية إلى مجرد خيال سياسي ورمز للتناقضات.

يتجول الكاتب في قصر تيتو البسيط، يتعرف إلى مكتبته ومقتنياته، ويتساءل في نفسه إن كان الزعيم قرأ الروايات واليوميات والبيوغرافيات للمتعة الشخصية أم للاستعانة بها في التخطيط وصياغة الخطابات السياسية الحماسية. ويشير إلى أنه لم يصادف اسم كاتب عربي واحد في مكتبة تيتو، رغم العلاقات الجيدة التي كانت تجمعه مع قيادات ودول عربية.

سحر المدن
يحكي سعيد خطيبي انطباعاته الأولى عن المدن وتغيّرها أثناء التجول والتعرف إلى تفاصيلها، كحالته في زغرب التي بدا له للوهلة الأولى أن إيقاع الحياة فيها مضطرب وعابس، وغير منسجم مع سمعة المدينة التاريخية، ثم تتوارى تدريجيا الانطباعات السريعة إلى الوراء، فاسحة المجال للمعاينات الواقعية.

الرحالة يتذكر في كل مدينة يزورها شيئا من بلده الجزائر، سواء من الناحية الجغرافية أو التاريخية، أو من حيث طباع البشر وعلاقاتهم وتفاعلهم وتواصلهم، ورموز بلده من قادة تاريخيين أو أدباء مميزين

ويقول صاحب "جنائن الشرق" إن هناك فسيفساء تظهر للزائر وتختصر أوروبا في بقعة واحدة، وخلف الواجهات الصارمة والنظرات الخاطفة للمارة تتمدد حياة إنسانية دافئة ومتوهجة، وتتكاثر معابد الفن، وتزدهر حركة تشكيلية معاصرة، حيث تتقاطع الهويات والإثنيات التي وجدت في المدينة نفسها نقاطا مشتركة تجمع بينها.

ويتذكر الرحالة في كل مدينة يزورها شيئا من بلده الجزائر، سواء من الناحية الجغرافية أو التاريخية، أو من حيث طباع البشر وعلاقاتهم وتفاعلهم وتواصلهم، ورموز بلده من قادة تاريخيين أو أدباء مميزين.

كما تذكره كل مدينة بجزء من المدن العربية أو واقعها، كحالة سراييفو والتماثل بين ماضيها القريب والحرب الأهلية التي عاشتها، والحالة السورية الراهنة، فيبث في كتابته عن المدن التي يزورها روحا وحياة فيها.

يقول خطيبي إنه لا يشتري تذكارات أو بطاقات من المدن التي يزورها كما يفعل السياح عادة، لأنه يشعر أن تلك المدن تتزين له وتفتح أمامه أبوابها ونوافذها، وأنه لا يشعر بنفسه سائحا، بل يحاول الانصهار في ليونة وصلابة الأمكنة التي يزورها، والاختلاط بناسها مباشرة، مع النظر دائما من زاوية غرض واحد: الكتابة عنها بشكل يحرم عنه أحيانا متعة عيش اللحظة والاستمتاع بسحر المدن.

ويختم خطيبي رحلته في ميدان كييف، فيكون شاهدا على ثورتها ويصف لحظة وصوله إلى الميدان المطوق بالمتاريس والعجلات المطاطية والأسلاك الشائكة، بعد عناء ليلة مضطربة من السفر والانتظار، وينقل قلق صديقه إيفان ومخاوفه من تقسيم البلد إلى ثلاثة أجزاء: "شرق وجنوب موالييْن لروسيا، وغرب موالٍ للاتحاد الأوروبي".

يقرأ الروائي الجزائري وجوه الناس ودواخلهم، ويقول إنه صادف أناسا مبتسمين تارة ومتوجسين خيفة من الغريب تارة أخرى، يقتصدون في الكلام ولا يطيلون التحديق في عيون المارة، لا يثرثرون إلا في الثورة وتبعاتها، ومن إيجابياتها إشاعة جو غير معهود من الأخوة بين أبناء المدينة المتعددة الأصول.

ويخلص خطيبي إلى أنه بعد نهاية الرحلة وفصولها، وجد أنه لم يحمل تذكارات، بل ذكريات وصورا وملاحظات أعاد صياغتها في كتابه، وأنه كتب مشاهداته وأحاسيسه عن مدن جنائنية ملتهبة تختزن بحزم أسرارها، ولا تكشف إلا عن القليل من خباياها، وتستحق دائما أن نعود إليها.

ويدرك الكاتب أن الترحال -مهما اختلفت بقاعه- يعيد المرء باستمرار إلى بقاع عرفها، إلى أمكنة عاش فيها، وتنفس فيها رغبة الاكتشاف ولذة الحلم، ويختم بقوله "السفر إلى الخارج ليس سوى عودة إلى الداخل".

المصدر : الجزيرة