"الغصن الذهبي".. سيرة حميمية لجيمس جويس

غلاف كتاب (الغصن الذهبي) للإيرلندي آثر باور

هيثم حسين

يقدم آرثر باور في كتابه "الغصن الذهبي.. حوار ممتد مع جيمس جويس" صورة مقربة للروائي الأيرلندي الشهير جيمس جويس (1882-1941) صاحب رواية "أوليسيس" التي شكلت منعطفا في تاريخ الرواية الحديثة.

يصف باور البدايات القلقة والمتوترة لتعارفه بجويس في باريس، وكيف أن انطباعاته الأولى ما لبثت أن تبددت بعد تعدد اللقاءات والتعرف إلى جويس عن قرب، والدخول معه في نقاشات عن الأدب والمنفى. ويحكي آرثر أن موضوع حديثهما الأساسي كان الأدب، وهو الشيء الذي جمع بينهما.

يساهم باور في كتابه -ترجمه حسونة المصباحي ونشرته دار أزمنة (2015)- في تعريف القراء بجوانب غامضة من شخصية جويس من خلال نقل حواراته معه وتدوين آرائه في الفن والأدب والسياسة والحياة، وطريقته في أعماله الروائية، وجوانب من مواقفه الحياتية وتنقلاته الكثيرة ومعاناته إثر ذلك، وكاشفا جوانب من حياته الأسرية.

صموت وصريح
يصف باور صديقه جويس بأنه لم يكن فصيحا بالمعنى العادي للكلمة، وأنه كان رجلا كثير الصمت. يقول إن الصمت والمنفى والحيلة كانت الأسلحة التي يتباهى بها، ويقول إنه كان صريحا بشكل عجيب ولا علاقة له بالمكر أو الخداع لا من قريب ولا من بعيد. ويستدرك منوها إلى أن الرجال الصموتين ربما يكونون في الحقيقة محتالين أكثر من الثرثارين.

الكاتب يستعيد عددا من ملاحظات جويس وأفكاره خلال استذكاره المواقف واللقاءات التي جمعتهما، ويذكر رأيا لجويس عن واقعية الأدب أو خياليه، مؤكدا أن الأدب لا بد أن يكون الحياة

يستعيد الكاتب عددا من ملاحظات جويس وأفكاره خلال استذكاره المواقف واللقاءات التي جمعتهما، ويذكر رأيا لجويس عن واقعية الأدب أو خياله، مؤكدا أن الأدب لا بد أن يكون الحياة، وأن ثمة شيئا لم يستطع أن يتعود عليه خلال فترة شبابه ألا وهو الفرق بين الحياة والأدب. وهنا يشدد على ضرورة استقاء الأدب من الحياة، وأهمية كون الحياة مفعمة بروح الأدب والفن في كل تفصيل ومنحى.

يكتب آرثر تفاصيل مناقشة أشبه بسجال بينه وبين جويس عن المسرح، وبخاصة مسرح شكسبير وتشيخوف وسانج وأبسن واشتغالهم بأعمالهم، وطريقتهم في مقاربة القضايا الاجتماعية والسياسية، ودورهم في تسليط الأضواء على ما كان يعاني منه الناس في زمنهم.

ويشير آرثر أثناء المناقشة إلى رأي جويس المتمثل في عدم الاكتفاء بالجانب العاطفي، وأهمية المفهوم الثقافي الذي يقود إلى تشريح الحياة، وهو ما يهم برأيه، وكذا ضرورة البحث عما تبقى من حقيقة في الحياة عوض نفخها بالرومانسية. ويذكر كيف أن جويس كان يحاول التأسيس لأدب ينطلق من تجربته الشخصية وليس انطلاقا من فكرة مسبقة أو من إحساس عابر أو طارئ.

يحكي آرثر عن بعض الجوانب الشخصية لدى جويس، منها مثلا أنه كان يمقت الذهاب إلى أي مطعم كيفما اتفق، ولم يكن يحب غير المطاعم القليلة التي تعود على ارتيادها، رافضا رفضا قاطعا الدخول إلى المقاهي الشهيرة التي يرتادها الفنانون والكتاب والشعراء في حي مونبارناس بباريس، وأنه حين جرب دعوته إلى مطعم جديد مميز شعر بعدم الراحة وبتغير سحنته وتفضيله المغادرة باكرا.

ويعلق جويس على رأي باور حول ما يسميها بمبالغات مفرطة للأدباء تتجاوز كل الحدود الممكنة، وتوصيف تلك الشخصيات بالجنون، ويؤكد على صفة الجنون لكنه يفلسف الأمر على طريقته، فيقول إن هاملت كان مجنونا، ومن هناك أتت الطاقة الكبرى.

كما يجد جويس أن بعض شخصيات المسرح الإغريقي مجانين، وغوغول كان مجنونا، وفان غوخ كان كذلك. ويشير إلى أنه يفضل كلمة "هيجان" التي يمكن أن تعني الجنون، ويؤكد أن كل الرجال العظام كانوا شبيهين بشخصيات دوستويفسكي، ويعتبر أن ذلك هو منبع عظمتهم، لأن الإنسان العاقل لا يمكن أن يقوم بعمل مهم.

أشياء مسمومة
يتحدث باور عن حكايته مع رواية "أوليسيس" لجويس، قائلا إنه حين أعطاه جويس مخطوط روايته أخذه وكان ثقيلا مغلفا، وإنه بينما كان يجتاز الطرقات المزدحمة عائدا إلى مرسمه كان يرجف طول الوقت مذعورا من أن تدهسه سيارة وأن يفقد المخطوط. ويضيف أنه حين شرع في قراءته، أدهشته حداثته وأسلوبه الجديد، وانتابه إحساس أنه ضائع وسط زوابع نثره المعقد.

آرثر كشف ما كان يردده له جويس عن "أوليسيس" الذي يصفه بأنه كتاب فترة نضجه، وأنه عمل يرضيه أكثر من عمله في فترة شبابه، ويجد أنه في "أوليسيس" حاول أن يرى الحياة بوضوح

يدوّن آرثر ما كان يردده له جويس عن "أوليسيس" الذي يصفه بأنه كتاب فترة نضجه، وأنه عمل يرضيه أكثر من عمله في فترة شبابه، ويجد أنه في "أوليسيس" حاول أن يرى الحياة بوضوح وأن يفكر في الحياة كما لو أنها شيء كامل، وأن "أوليسيس" كان دائما بطله المفضل، وأنه كان عليه أن يعيش نصف العصر لكي يدرك التوازن الضروري للتعبير عن القلق الذي عاشه سابقا، ذلك أن فترة شبابه كانت موسومة بالعنف بصفة استثنائية، وكانت صعبة وعنيفة، كما يقول.

ويثبت الكاتب ما صرح جويس به له عن أن روايته "أوليسيس" فتحت طريقا جديدا وأنه سيتأثر بها كثير من الكُتاب لاحقا. ويقول إنه انطلاقا من "أوليسيس" بإمكانهم معاينة توجه جديد في الأدب، ألا وهو الواقعية الجديدة، وأنه حتى لو انتقد "أوليسيس" فإن الشيء الوحيد الذي عليه أن يعترف له به مع ذلك هو أنه حرر الأدب من العوائق التي كان يعاني منها على مدى قرون طويلة. وعليه أن يدرك أن الطريقة الجديدة في الكتابة والتفكير قد ولدت، وأن الذين يرفضون الخضوع لها سيجدون أنفسهم على الهامش.

ينقل باور بتأثر رأي جويس الذي يقول له إنه قبل ذلك كان الأدباء يهتمون بالمظاهر الخارجية، ومثل بوشكين وتولستوي، كانوا لا يفكرون إلا على مستوى معين. أما الموضوع الحديث، فإنه يستخلص القوى العميقة، تلك التي توجد تحت السطح، وتلك التيارات الخفية التي تتحكم في كل شيء وتقود الإنسانية عكس التيار الظاهر المتكون من أشياء مسمومة تغلف الروح ومن أبخرة الجنس المفسدة للصحة.

المصدر : الجزيرة