ردود على "هدايا الكتب"

تصميم صورة مقال للكاتب أمير تاج السر لصفحة ثقافة وفن
أمير تاج السر*

سبق أن كتبت مقالا عن هدايا الكتب التي تقدم في العادة للمبدعين أثناء السفر وإقامتهم في بلدان غير بلدانهم من مثقفي ومبدعي تلك البلدان التي يزورونها، وذكرت كيف أن هذه الهدايا برغم القيمة المعنوية التي تحملها، فإنها قد تشكّل عبئا إضافيا للمبدع، خاصة إن كان سيغادر إلى بلاد أخرى غير بلده، وسيلتقي فيها آخرين يهدونه كتبا أيضا، وتتفاقم المشكلة.

ولأن المقال كان طرحا مباشرا يهم الذين يهدون والذين يهدى إليهم، فقد وصلتني رسائل عديدة، منها رسالة من واحد اسمه سلطان، وهو كاتب شاب من الرياض كما ذكر، ويقول إن هدايا الكتب في رأيه  الشخصي هي أثمن الهدايا التي يمكن أن تقدم لمثقف أو صديق على الإطلاق، وأن الذي تقدم له مثل هذه الهدايا عليه أن يقدرها ويحترمها ويحملها في حدقتي عينيه، إلى حيث يقيم، حتى لو اضطر إلى أن يدفع ثمن وزنها.

مطاردة الكتب
كما وصلتني رسالة من باسلة، وتقول إنها لم تصبح كاتبة بعد رغم إمكانية أن تصبح كذلك في يوم من الأيام، لكنها قارئة عنيدة لا تقبل هدايا الكتب فقط، بل تطارد ما لم يُهد إليها من أجل أن تمتلكه.

ربما كان مقالي صادما للبعض ومحركا لمثل هذه الرسائل، لكنه -في زعمي- مقال حقيقي يطرح حقيقة علينا مطالعتها بتأن ووضع حل لها

وتلومني باسلة لأنني لمحت في مقالي الذي كتبته عن الكتب المهداة إلى إمكانية أن أترك هداياي من الكتب في أماكن إقامتي بلا أي تأثر، ولا أسعى لمعرفة مصيرها. وعلى هذا المنوال وصلت رسائل عديدة  كما ذكرت، كلها تعظيم للكتب وتقدير لمكانتها الرفيعة، وعتاب كبير لكل من يتجاهلها، بحجة أنها تزيد من وزن أمتعته.

كما كتب الصديق فتحي تعقيبا على المقال ذكر فيه أنه بحكم عمله في السياحة يعرف مكونات الغرف التي يتركها النزلاء في الفنادق ويغادرون، وما أكثر ما عثر على كتب عليها إهداءات من كتّاب كبار وصغار على حد سواء، تركت كما هي من دون أن يكلف الشخص عناء نزع الإهداء عنها، وتركها هكذا دليلا قاطعا سيحرجه في يوم ما.

حقيقة، ربما كان مقالي صادما للبعض ومحركا لمثل هذه الرسائل، لكنه -في زعمي- مقال حقيقي يطرح حقيقة علينا مطالعتها بتأن ووضع حل لها.

هناك ما يسمى تواصل الأجيال في أي مجال من المجالات، شئنا أم أبينا، فالجيل القديم يسلم مبادئه وكثيرا من المعاني الطيبة للجيل الذي يليه، حتى لو لم يقصد ذلك، والجيل الذي يليه يعض على تلك المبادئ بتصويباتها وأخطائها معا، ليتسلمها جيل جديد، ربما يحملها كما هي وربما يطورها، ولكنه سيتردد كثيرا قبل أن يفكر في حذفها تماما.

تواصل الأجيال
ولأن الكتابة وملحقاتها من قراءة وتذوق وجنون، ترتكب بواسطة أجيال تعمّر وتمضي لتخلفها أجيال أخرى، عملا بمنظومة التعاقب، فلا بد من التواصل والتواصل الحميم أيضا من أجل الكتابة وحدها.

يسعى الكاتب الجديد للتواصل مع القديم ولا يملك من أدوات التواصل سوى كتابه الذي أنفق فيه جهدا ومالا ويود أن يسمع فيه كلمة خير من كاتب خبير، والكاتب الخبير لن يرفض التواصل بأي شكل من الأشكال، بمعنى أنه سيجلس مع الشاب في أقرب فرصة يجدها وسيحتفي نظريا بكتابه المهدى أو أداة تواصله، ويعده بالتواصل العملي في أقرب وقت حين يقرأ الكتاب ويضيئه في مقال.

أورد أحيانا بعض الأسئلة المطروحة على استحياء، أقفز بها للسطح وأترك الآخرين يحاورونها بحثا عن إجابات، وأعتبر هذا بصدق رسالة ينبغي أن أبلغها حتى لو لم يكن هناك من ينتظر مني أن أبلغه

هو لا يكذب حقيقة، وربما يكون شغوفا لمعرفة كيف يكتب الشباب الجدد؟ وما هي مواضيعهم، ولغتهم، وتقنياتهم؟ وقطعا يود الاستفادة من كل ذلك بغرض المواكبة، وبكل صراحة، لا يوجد كاتب مهما كبر عمرا واسما، ومهما صنع تاريخا، لا يحتاج إلى نصح فني، ذلك النصح الذي لن يخبره به أحد على الإطلاق، بل يعثر عليه وحده في أثناء القراءة، ومن الممكن جدا أن تكون قراءة لشاب كتب نصا واحدا فقط.

المشكلة التي تعوق عملية التواصل هذه هي ضيق الوقت، ومعروف أن الشخص المهني في أي وظيفة تتشعب أعباؤه وتزيد انشغالاته كلما كبر، ناهيك عن مهنيٍّ يكتب في نفس الوقت، ويحتاج لوقت للكتابة الإبداعية، وكتابة التزاماته من الآراء للصحف، وأيضا أبحاثه الخاصة من أجل الأعمال الإبداعية.

لقد ذكر سلطان صاحب الرسالة الأولى مسألة حدقات العيون، وهو تعبير قديم ومستخدم بشدة، وأضيف بأن هدايا الكتب بالنسبة لي قريبة من القلب دائما، فقط ما يعوق إسكانها عميقا في القلب هي تلك الإشكالات التي ذكرتها.

أيضا من ضمن ما أحدثه مقال الكتب من ردود أفعال هو أن عدة أشخاص حصلوا على عنواني البريدي وأرسلوا لي كتبا تخصهم، مؤكدين أنهم يلغون التحجج بزيادة وزن الأمتعة، وأن هذه الكتب الآن تصل إليّ في بيتي، ولا مفر من قراءتها، وعلى العكس قرر البعض مقاطعتي وعدم إهدائي كتبا حين أزور بلدانهم.

مشكلتي أنني أعمل بمبدأ صريح في الكتابة الإبداعية أو الصحفية، فمقالاتي ليست لوحات تشكيلية أجمّل بها سيرتي الشخصية وسيرة أعمالي وسيرة الثقافة المتردية عموما، وليست أيضا أبوابا من الجحيم أفتحها هنا وهناك.

كل ما في الأمر هو أنني أورد أحيانا بعض الأسئلة المطروحة على استحياء، أقفز بها للسطح وأترك الآخرين يحاورونها بحثا عن إجابات، وأعتبر هذا بصدق رسالة ينبغي أن أبلغها حتى لو لم يكن هناك من ينتظر مني أن أبلغه.

كلنا يعرف قيمة أن يهدي كتابا من نسجه لأحد، وكلنا يعرف مغبة أن يترك كتابا أهدي إليه من طرف أحد، لكننا جميعا لا نعرف كيف نبتهج بالكتاب ونصنع البهجة لصاحبه.
________________ 

* روائي وكاتب سوداني

المصدر : الجزيرة