قد يأكلنا اليأس!

إذا كانت التجارب الأليمة هي التي تُثري أدب الكاتب عادة وتحفّز موهبته وتغريه لابتكار الجديد, فإن ذلك لا يعني انتفاء أثرها السلبي الشديد بل والمدمر أحيانا على روحه ومشاعره

إبراهيم صموئيل*

لا أدري إن كان من غرائب أو من طرائف الأحداث المأساوية التي تصيب الكاتب أو بلاده أن أول ما يخطر على بال قرائه ومتابعي كتاباته بعد ساعات الأسى الأولى لتلقيهم النبأ هو: ما تُراه سيكتب عن المحنة التي أصابته، أو تلك التي لحقت ببلاده؟ وما الذي ستخلفه تجربته الجديدة لنا من قصائد أو قصص أو سواها؟

سنلمس ذلك بوضوح حين يعتقل الكاتب وتطول سنوات سجنه، أو تموت حبيبته أو ابنه أو أحد المقربين من أصدقائه، أو حين يضطر لفرار إلى منفى متاح جراء هياج اجتماعي على آراء له أو كتاب، أو بسبب ضغط عليه من السلطة الحاكمة وتهديد صريح تلقاه.

ومن الملاحظ أن المآسي الشديدة -سواء منها العامة التي تقع بالبلاد، أو الخاصة التي تحل بالكاتب والفنان- غالبا ما تتحول لدى متابعي أعمال المبدع -وبنوايا طيبة بلا شك- إلى التساؤل عن جديده محتمل الظهور جراء ما حدث له أو لبلاده أكثر مما تدفعهم للسؤال عن آثارها على نفسيته وروحه وخراب أحواله الخاصة بعد ما حدث.

أزمات مدمرة
وإذا كانت التجارب الأليمة -العامة أو الخاصة- هي التي تثري أدب الكاتب عادة وتحفز موهبته وتغريه لابتكار الجديد فإن ذلك لا يعني انتفاء أثرها السلبي الشديد -بل والمدمر أحيانا- على روحه ومشاعره ومجمل موقفه وسلوكه لا إزاء الكتابة فقط، وإنما إزاء الحياة أيضا.

وعلة ذلك -ببساطة- أن الكاتب أو الفنان أو المفكر هو إنسان قبل أن يكون مبدعا وبعد أن يصير، أي أنه ليس آلة إنتاج ما إن يتم إدخال مادة جديدة إليها أو إجراء تغيير عليها حتى نراها تجدد منتجها أو تغيره!

ثمة كتّاب لا يتوقفون عن الكتابة رغم الأثر البليغ الذي يصيب أرواحهم إثر مآسٍ شخصية أو نكبات عامة، ربما لأنهم يحولون الألم إلى مادة خصبة يستلهمون منها موضوعات ورؤى جديدة لأعمالهم فينتجون المزيد

أعلم أن ثمة كتّابا لا يتوقفون عن الكتابة رغم الأثر البليغ الذي يصيب أرواحهم إثر مآسٍ شخصية أو نكبات عامة، ربما لأنهم يحولون الألم إلى مادة خصبة يستلهمون منها موضوعات ورؤى جديدة لأعمالهم فينتجون المزيد، أو ربما لأسباب أخرى تتعلق بشخصياتهم لا مجال للتوقف معها هنا.

ولكن -بالمقابل- ثمة من تتهشم أرواحهم تحت سواد ووطأة أزمات كبرى عاشوها وعانوا منها، سواء كانت شخصية فردية أم مجتمعية عامة، ثمة من تتصدع عوالمهم وتنشرخ نفوسهم، ثمة من يخيم فيهم ليل لا فجر له، فيعافون -من دون تقصد منهم- الكتابة والإنتاج الفني في ظل حال بالغة القسوة والتدمير: اليأس.

واليأس ليس سمة لعامة الناس من دون المبدعين، اليأس ليس غولا تأنف غريزته من التهام أصحاب الأعمال الفكرية أو الأدبية أو الفنية. على العكس، إذ بسبب من الحساسية المفرطة للمبدع، والشعور المرهف، وتضخم ألمه يكون أقرب إلى فم الغول جراء المآسي والكوارث، خصوصا بعد أن يكون قد كرس حياته وأعماله لإشادة ممالك الأمل.

الحياة والكتابة
ويندر جدا أن تخلو اللقاءات والمجالس من أسئلة توجه للكتّاب أو يتبادلونها في ما بينهم: ما الجديد الذي كتبته في ظل ما يجري في عالمنا العربي؟ أو عن تجليات المنفى في كتابات الكتاب المنفيين، أو أثر الاعتقال في روايات هذا، أو عما خلفه رحيل أعز الأصدقاء في قصص ذاك أو قصائده؟

السؤال ليس محرما كما يقال، غير أن ثمة خلفية ذهنية أو صورة نمطية لدى السائلين تنتفي منها إصابة المبدع بالانتكاس، وتخلو من أعراض الكآبة والانطواء التي يمكن أن تحل به -ناهيك عن اليأس- أو قيامه بإعادة النظر في كل ما مضى، أو احتمال التغير والتبدل من أساسه.

يندر أن تخلو اللقاءات والمجالس من أسئلة توجه للكتّاب أو يتبادلونها في ما بينهم: ما الجديد الذي كتبته في ظل ما يجري في عالمنا العربي؟ أو عن تجليات المنفى في كتابات الكتاب المنفيين، أو أثر الاعتقال في روايات هذا أو ذاك

قبل سنوات كتبت مقالا بعنوان "الاختصاص.. بطولة!" قلت فيه إن ثمة اعتقادا شائعا يذهب إلى أن اتخاذ موقف إنساني مبدئي دون التراجع عنه بمثابة بطولة لا يتصف بها إلا من تخصص في حقلها وعلومها على غرار تخصص بعض الناس دون الآخرين بطب العيون أو الهندسة المعمارية أو علم الآثار والمتاحف!

الاعتقاد نفسه ينسحب على الكتاب والفنانين، إذ غالبا ما ينظر إليهم على أنهم خلقوا ليكتبوا ثم يكتبوا ويكتبوا, معبرين عن كل جديد يطرأ أو انعطاف يحدث أو نكسة أو هزيمة تقع، عن كل حالة عامة أو شخصية من دون توقف، أو تريث، أو إعادة نظر، أو كف، أو إحباط، أو يأس!

ولعلي أذكر هنا حوارا جادا وطويلا وصميما جرى بين كاتبين، الأول ما زال مستمرا في الكتابة والنشر، فيما الثاني كف عنها أو عافتها نفسه في السنوات القليلة الماضية.

وفيما كان الأول يعاتب الثاني ويحضه على العودة إلى الكتابة والإنتاج الأدبي راح الثاني يبوح ويشرح أحواله الداخلية الحائلة دون عودته إليها، مما أثار الآخر -واستفزه ربما- فقال بشيء من التوتر: "اعذرني، أنت لست كاتبا إذن!" فأجابه "لا تعتذر يا صديقي أبدا، أنا حقا لست كاتبا موظفا لدى الكتابة. أنا أحيا، وفي الأثناء يمكن أن أكتب". 
______________
* كاتب وقاص سوري

المصدر : الجزيرة