مصر الناصرية تدفع الجزية لتركيا.. العلمانية!

تصميم مقال لصفحة الثقافة لناصر يحيى

ناصر يحيى

طالما سخر كثيرون من تقليدية خطب الجمعة في العالم الإسلامي، ولاسيما في الزمن الذي أعقب سقوط دولة الخلافة العثمانية، عندما كان الخطباء المنعزلون عن أحداث العالم يختمون خطبهم بالدعاء للسلطان المعظم، خليفة المسلمين، ملك البرين والبحرين، وحامي الحرمين الشريفين، والخطيب الداعي والجمهور الصارخ: "آمين"، لا يعلمون أن المدعو له لم يعد له ولا لدولته وجود في الدنيا!

كانت تلك صورة مأساوية لحالة الغيبوبة السياسية والحضارية الذي وصل إليها المسلمون يوما ما.. وهي للمفاجأة حالة تصيب أحيانا حتى دولا متقدمة بسبب البيروقراطية اللعينة التي تنشب أنيابها المخملية في أعماق الدولة والمجتمعات فتجعلها كالعمياء لا تنفعها عيون ولا قلوب!

احذر الطّلاء!
ولعله من المقارنة الظريفة أن نذكر مثلا لغيبوبة أوروبية مماثلة -وإن كانت أقل فجيعة- فقد قيل إن مسؤولا جديدا في مجلس العموم البريطاني كان يلاحظ دائما في أحد أورقته جنديا بلباسه التقليدي يقف في مكان لا يتزحزح منه.

هناك حكاية الجندي الياباني الذي اختبأ في إحدى الغابات أربعين عاما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وظل يعيش في الكهوف خوف الوقوع في أيدي العدو حتى اكتشف أمره في ثمانينيات القرن الماضي

وفي مرة سأله عن وظيفته فسمع ردا غريبا مفاده أن مهمته هي الوقوف في هذا المكان لتحذير الناس من عدم لمس الجدار فتتلوث أيديهم بالطلاء.

ولما لم يكن هناك طلاء جديد أصلا فقد تقصى الأمر فاكتشف أن الحكاية تعود إلى زمن بعيد تم فيه فعلا طلاء ذلك الجدار، وخشية من أن تتسخ ثياب أعضاء العموم المحترمين إن مروا بجوار الجدار وهم غير منتبهين، فقد تم تكليف جندي للوقوف هناك لتحذير المارة.

ونتيجة للبيروقراطية الحادة نسي المسؤولون الحكاية لكن التكليف ظل قائما، وظل الجنود يقفون في ذلك المكان لأداء مهمتهم في تحذير الناس!

على المستوى الفردي، هناك حكاية الجندي الياباني الذي اختبأ في إحدى الغابات أربعين عاما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وظل يعيش في الكهوف والغابات، ويأكل من الأشجار ويشرب من الجداول، ويعيش مع الحيوانات خوف الوقوع في أيدي العدو (ربما لأنه كان مكلفا من قائده بحراسة موقع ما!) حتى اكتشف أمره في ثمانينيات القرن الماضي، وخرج الجندي المخلص الذي صار عجوزا بين أضواء آلات التصوير ليكتشف أن الحرب قد انتهت منذ زمن بعيد ولم يعد هناك من عدو!

جزية في القرن.. العشرين!
حكاية دفع مصر في أوج عصرها التقدمي الجزية لتركيا في أوج زمنها العلماني ليست من حكايات الأساطير وفبركات الصحافة، فقد روى الحادثة الكاتب المصري الشهير محمد حسنين هيكل في كتابه "سنوات الغليان"، وهي أنموذج سريالي للمدى الذي يمكن أن تأخذ البيروقراطية المجتمعات إليه.

وصحيح أن مصر مشهورة بنوعية من الممارسات البيروقراطية المعتقة التي طالما عانى منها المصريون، وسخروا منها بمرارة بعد أن يئسوا من التخلص من بلاويها، إلا أن الأنموذج الذي نحن بصدده الآن يبدو أشد وأنكى ليس فقط لدلالته البيروقراطية المؤسفة، ولكن لأبعاده السياسية والوطنية لدولة مثل مصر!

عبد الناصر اكتشف أن مصر ظلت تدفع الجزية المقررة عليها لتركيا زمن الخلافة حتى عام 1955، وبالتحديد بلغ إجمالي ما تم دفعه بالجنيهات الذهبية 23.174.984 جنيها!

والحكاية كما يرويها الأستاذ هيكل بدأت في أعقاب إحكام الرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر قبضته على الأوضاع في مصر، وبالتحديد في عام 1955.

وكان من أولى اهتمامات عبد الناصر في تلك المرحلة إعادة النظر في جهاز الدولة الإداري كأحد وسائل إعادة ترتيب قواعد القوة والسلطة التي تركزت في يده!

حينها اكتشف واقعة أصابته بالدهشة إذ قد تبين له أن مصر -التي انتهت علاقتها رسميا بالخلافة العثمانية عام 1914 بإعلان الحماية البريطانية عليها- ظلت تدفع الجزية المقررة عليها لتركيا حتى عام 1955، وبالتحديد بلغ إجمالي ما تم دفعه بالجنيهات الذهبية 23.174.984 جنيها!

وكالعادة استيقظت البيروقراطية للتحقيق في الواقعة، وتأكدت وزارة الخارجية المصرية من أن مصر بالفعل ظلت تدفع الجزية لتركيا طوال تلك السنين الإحدى والأربعين!

وعلى العادة البيروقراطية عندما تتحمس لحماس الزعيم، بشّرته الخارجية بأن مصر من حقها أن تطالب تركيا بإعادة تلك الأموال مع احتساب الفوائد عليها بواقع خمسة بالمائة وفق سعر الفائدة العالمي وقتها، وهو ما سيجعل المبلغ المطلوب رده إلى الخزينة المصرية يصل إلى سبعين مليون جنيه، أو ما يساوي ألف مليون دولار بقيمة النقود زمن صدور كتاب هيكل في عام 1988!

وعلى حد رواية الكتاب، فإن الرئيس عبد الناصر رغم اقتناعه بأن الأتراك لن يردوا أموال الجزية، فإنه وافق -ربما تماهيا مع بيروقراطية بلده- على ضرورة مطالبة تركيا بدفع أو إعادة مبلغ الجزية التي كانت مصر تدفعها لخزينة دولة لم تعد موجودة في الدنيا، وتقاسم أعداؤها أراضيها وممتلكاتها كما يفعل الأكلة على الموائد!

الشنكل الخبران
بكل المعايير، يظل فعل خطباء الجمعة الداعين بالنصر والتمكين للسلطان حاكم البحرين والبرين بعد انقضاء دولته، والجندي الياباني المختفي في الغابة أربعين سنة، والجندي البريطاني الحريص على نظافة ثياب المشرعين في بلاده.. كل هؤلاء يظلون أقل استحقاقا للوم والتقريع من دولة بحجم مصر ظلت تدفع الجزية علامة على خضوعها وتبعيتها لدولة لم يعد لها وجود على وجه الأرض.

هل تذكرون مشكلة الشنكل الخربان في فيلم "أرض النفاق" الذي صرفت البيروقراطية المصرية أربعمائة جنيه مقابل متابعة المقاول لإصلاحه، وهو الذي لا يتعدى ثمنه قروشا قليلة؟

وحتى إن النظام السياسي الذي نشأ على أطلالها في تركيا كان علمانيا متطرفا معاديا عداء صليبيا لها وللإسلام ولكل ما يمثله مما هو أقل من الجزية مثل حجاب النساء وغطاء الرأس أو الطربوش التركي الشهير!

هل تذكرون مشكلة الشنكل الخربان في فيلم "أرض النفاق" الذي صرفت البيروقراطية المصرية أربعمائة جنيه مقابل متابعة المقاول لإصلاحه، وهو الذي لا يتعدى ثمنه قروشا قليلة؟ علما بأن الواقعة ليست موجودة في نص الرواية التي كتبها يوسف السباعي نهاية الأربعينيات، وهي من إبداعات سيناريست الفيلم.

الحق أنها قضية تبدو مزحة فضلا عن أنها خيالية مقارنة بالجزية وأموالها التي لاشك أنها قد تجاوزت بكثير بليون دولار بحساب أيامنا هذه.

فيا ترى، كم جزية أو "شنكل" موجود في حياتنا ولا ندري به؟
_____________

* كاتب صحفي يمني

المصدر : الجزيرة