أدب الجريمة وهنينغ مانكل

تصميم صورة مقال للكتاب أمير تاج السر، في صفحة ثقافة وفن، وهذا الاقتباس: لا تبدو روايات الجريمة أصلية حين تكتب في عالمنا العربي، فالذين يقدمونها غالبا ما يتقمصون لغة الغرب، فتبدو كالروايات المترجمة حين تقرأ عربيا

أمير تاج السر*

منذ عدة أيام، رحل الكاتب السويدي المعروف هنينغ مانكل، وقد كان من المختصين في أدب الجريمة، ومن الذين ابتكروا شخصيات هامة للأدوار الرئيسية في رواياتهم، يخالها القارئ شخصيات حقيقية قفزت من الواقع إلى الورق، وليست خيالية مخترعة.

ولا شك أن شخصية المفتش كورت فالاندر بكل تجليات رسمها وحياتها وتحركاتها في النصوص، شخصية متقنة فعلا، وتذكرني دائما بشخصية محقق الجريمة الشهير شيرلوك هولمز التي ابتكرها الأسكتلندي آرثر كونان دويل، أواخر القرن التاسع عشر، واستمرت إلى بدايات القرن العشرين، ومؤخرا عادت تلك الشخصية مرة أخرى في أعمال حداثية، تستخدم التكنولوجيا الجديدة في كشف غموض الجرائم، إضافة إلى التحليل المنطقي الذي عرفت به دائما.

منذ عدة سنوات قرأت لمانكل أول مرة. كانت رواية اسمها "الكلاب في ريغا"، وتحكي عن التهريب والعنف والتسلط وضياع الحقوق في دولة اشتراكية تجاور السويد، وكيف يرفرف الموت بأجنحته كلها، ويصبح التحري عن وصول غرقى إلى شواطئ السويد، ارتبطوا بتلك الدولة خطرا أو حماقة يخوضها المفتش كورت فالاندر متخفيا، حتى يحل المعضلة.

قاتل بلا وجه
الرواية كانت كما أذكر حافلة بالإثارة والغموض وتعدد المواقف المربكة، وثمة شخصيات متهمة حتى العظم تسقط عنها التهم فجأة، وشخصيات لا علاقة لها بشيء، تصبح ذات علاقة بكل شيء فيما بعد، وكورت فالاندر والقارئ، عالقان في تلك الغوامض.

الأدب البوليسي، رغم أنه أدب من الدرجة الثانية في معظم أحواله، أي أدب كلاسيكي يكتب بأسلوب عادي وبلا تفنن في اللغة، أو استخدام للتجريب في الكتابة، يعد الأوسع انتشارا

والملاحظ هنا في هذه الرواية أن المسألة لم تكن جريمة قتل عادية، بدوافع عادية مثل السرقة والاغتصاب، ولكن ثمة دوافع سياسية أضفت على عمل مفتش الشرطة الرسمي تعقيدا كبيرا، لكن دائما ثمة حل في تلك الأعمال التي تبتكر تعقيداتها.

بعد سنوات، قرأت رواية أخرى هي "قاتل بلا وجه"، وتدور الرواية حول جريمة مزدوجة قتل فيها زوجان مسنان، وأيضا ثمة إثارة بلا حدود، ومطاردات ولهاث من الكاتب والمحقق والقارئ، للوصول إلى النهاية التي ترضي الأطراف كلها.

من المعروف أن الأدب البوليسي رغم أنه أدب من الدرجة الثانية في معظم أحواله، أي أدب كلاسيكي يكتب بأسلوب عادي وبلا تفنن في اللغة، أو استخدام للتجريب في الكتابة، يعد الأوسع انتشارا والأكثر طلبا للقراءة، خاصة في أوساط الشباب الذين يبدؤون قراءاتهم بكتب بوليسية مبسطة، ثم يرتفعون بقراءتهم إلى الكتب الأكثر غموضا وتعقيدا، مثل كتب هنينغ مانكل وأغاثا كريستي.

نعم، فالأدب البوليسي أدب لطيف ومُغر بالقراءة، وبالطبع أدب مربح ماديا، ولن تهبط أرباحه على الإطلاق، وما زالت كتب أغاثا كريستي، وموريس لبلان، وهما أيضا ابتكرا شخصيات قوية، تعيش في أذهان القراءة، يعاد طباعتها عشرات المرات بكل اللغات، وتكسب قراء جددا كل يوم.

كما ظهر كتاب رواية بوليسية يملكون حيلا جديدة وجبارة، وامتلكوا فضول القراء، ويصبح كاتب مثل استيفن كينغ، صاحب الروايات المنتشرة العديدة، مثل "بؤس"، أحد عمالقة هذا الفن الآن.

منذ فترة وفي صحيفة عربية، كانوا يتساءلون عن سبب ازدهار فن الكتابة البوليسية في معظم بلاد الغرب، بينما يظل هذا النوع عندنا فنا خجولا، يطل قليلا، وبأقلام تحاول تقديمه باجتهاد، ولكن نادرا ما تنجح.

الكتابة البوليسية
أعتقد أن الكتابة البوليسية تحتاج إلى تربة معينة، تنمو فيها الأحداث المطلوبة للكتابة، ومما لا شك فيه أننا نفتقد لهذه التربة، أو إن كنا نملك شيئا منها، هي تضيّع رغم ذلك أدوات مطلوب أن تنغرس في تلك التربة وتستخرج منها الفن.

ما زلت أقرأ لمانكل، الذي كتب كثيرا من الأعمال التي ترجمت للغات عديدة، كلما سنحت الفرصة، فالقراءة التي تطلب المعرفة يجب أن تطال كل شيء، ولا توجد قراءة ضارة في رأيي

أعتقد أن الجريمة الموجودة في بلادنا، وبرغم أنها جريمة في النهاية، إلا أنها لا ترتقي لتكون ألغازا عصية على الحل في معظم الأحوال، فالسرقات التي تتم وإن طالت حتى مصارف وخزائن كبرى للدول، يعرف مرتكبوها في وقت قصير وبلا تفكير مجهد، وجرائم القتل والاغتصاب ليست كثيرة، وتلك القليلة منها، تحدث أثناء العراك والانفعال، أكثر مما تحدث بفعل ذهنية تخطط وتنفذ، والزخم غير الأخلاقي والتشرد الكثيف، والتشكيلات العصابية المخضرمة، ذات الأسماء الرنانة مثل المافيا وغيرها، لا تترعرع في بيئاتنا على الإطلاق.

لكل ذلك، لا تبدو روايات الجريمة -أو الروايات البوليسية- أصلية حين تكتب، فالذين يقدمونها غالبا يتقمصون لغة الغرب، وهي اللغة الأصلية، فتبدو كالروايات المترجمة حين تقرأ عربيا، وإن كانت تشد القراء في سن المراهقة وبداية الشباب، فلن تفعل ذلك في سن النضوج دون شك.

في فترة من الفترات، كانت السينما العربية مغرمة بتقديم أدوار بوليسية لأبطالها، حيث تغرسهم في الجرائم والعنف، ونشاهد نجما عربيا يمارس القتال بالجودو والكاراتيه، أو يستخدم المسدس في القتل ومطاردة المجرمين، وهذه الأشرطة السينمائية أيضا تبدو للمشاهد العادي فنا مقلدا أكثر منه فنا عربيا خالصا، وغالبا تثير الضحك أكثر مما تهيج الحواس، وتجعلها تلهث في إثارة كبيرة.

هنينغ مانكل من بلد غربي، وبطله فالاندر الذي خسر زواجه حين تركته الزوجة وذهبت، ويلتقي أحيانا بابنته الوحيدة في لقاءات فاترة لا تشبه لقاءات الأب بابنته التي تحاول دائما أن تتحاشاه، يبدو بالطبع مناسبا جدا ليوظف في روايات تتحدث عن الجريمة.

وحتى السلوك الاجتماعي للابنة حين ترفض أن يتدخل والدها في شؤون إقامتها وحيدة، وسلوكها وعلاقاتها، يشبه بالطبع بيئة كتابة تلك الروايات، وستنجح لأصالتها وارتباطها بمكان الكتابة المناسب، وأي محاولات منا لصناعة بطل مثل فالاندر لن يصبح بدسامة وسلاسة ما كتبه الغرب في هذا الصدد.

وأخيرا ما زلت أقرأ لمانكل الذي كتب كثيرا من الأعمال التي ترجمت للغات عديدة كلما سنحت الفرصة، فالقراءة التي تطلب المعرفة يجب أن تطال كل شيء، ولا توجد قراءة ضارة في رأيي.
________________ 

* روائي وكاتب سوداني

المصدر : الجزيرة