قرن من الفن العربي في كتاب مصور

غلاف كتاب يا ليل يا عين للبنانية لميا زيادة
أنطوان جوكي-باريس

منذ بضع سنوات، تجاوزت الفنانة اللبنانية لميا زيادة نشاطها التشكيلي لوضع كتاب مصور بعنوان "وداعا بابل" صدر عام 2010 عن دار "دونويل" الباريسية، وروت فيه بالنص والرسوم سنوات طفولتها خلال الحرب اللبنانية.

وها هي اليوم تعيد الكرّة بكتاب جديد صدر عن دار "P.O.L" الباريسية بعنوان "يا ليل يا عين"، وتروي فيه بالطريقة نفسها العصر الذهبي الذي شهدته الفنون في عالمنا العربي من مطلع القرن العشرين حتى منتصف السبعينيات.

في البداية، أرادت زيادة كتابة قصة المغنية السورية المصرية أسمهان، لكن تدريجيا تحوّل مشروعها إلى "رواية" مصورة ضخمة (560 صفحة) تدور أحداثها بين القاهرة وبيروت ودمشق والقدس، خلال تلك الحقبة التي كان الفنانون وجمهورهم يتنقلون فيها بحرّية يصعب تخيلها اليوم داخل شرقنا.

قصص الفنانات
الرسوم الغزيرة التي ترافق النص تساهم بقوة في عملية السرد. ومع أنها تبدو منفذة بالحبر أو بمادة الباستيل، فإن زيادة أنجزتها جميعا بمادة "الغواش" (ألوان مائية غير شفافة) التي تشكل أفضل خيار لاستحضار ألوان وأنوار ومناخ مجتمع عربي كان ثريا بثقافاته وانفتاحه، يختلط داخله الملوك والأمراء والدبلوماسيون والأثرياء بالشعراء والفنانين والمنتجين الفنيين، ولا يميز أبناؤه الناس وفقا لانتمائهم المذهبي أو القومي.

زيادة أرادت كتابة قصة المغنية السورية المصرية أسمهان، لكن تدريجيا تحول مشروعها إلى "رواية" مصورة ضخمة تدور أحداثها بين القاهرة وبيروت ودمشق والقدس

تحتل قصص المغنيات والممثلات والراقصات العربيات جزءا مهما من الكتاب الذي يتوقف عند جرأتهن ومواهبهن التي سمحت لهن بفرض فنهن وانتزاع حرية دفعن من أجلها ثمنها غاليا أحيانا.

ونقرأ الكثير عن ظاهرة "كوكب الشرق" أم كلثوم التي ما زال وهج نجمها كاملا حتى اليوم. كما نقرأ أيضا عن أسمهان التي نافست أم كلثوم وما زال الغموض يكتنف فصولا كثيرة من حياتها وظروف وفاتها.

هنالك أيضا سامية جمال وتحية كاريوكا، وهناك ليلى مراد التي اختارتها أم كلثوم عام 1953 كي تكون المغنية الرسمية للثورة المصرية، رغم أصولها اليهودية، والتي رفضت مغادرة مصر بعد العدوان الثلاثي مثل الكثير من أبناء طائفتها واعتنقت دين الإسلام.

ومن لبنان تحضر فيروز التي ما زالت تعيش في بيروت وتلتزم بتلك الرزانة التي اشتهرت بها، ومواطناتها بديعة مصابني وسعاد محمد ونور الهدى وصباح.

ولا تهمل زيادة الفنانين الرجال في كتابها، وخصوصا المطربين والملحنين منهم مثل فريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ والأخوين الرحباني ومحمد قصبجي الذي دفّعته أم كلثوم ثمنا غاليا لاقتراحه أغاني على أسمهان.

مرآة شرقية
ولا تهمل الكاتبة أيضا الأمكنة الشهيرة التي كان هؤلاء الفنانون يترددون عليها أو يحيون حفلاتهم فيها، كدور القمار والنوادي الليلة ودور الأوبرا والفيلات والقصور (سان جورج، وكينغ دافيد، ولوريان بالاس…).

أهمية هذا الكتاب تعود إلى تمكّن زيادة فيه من استحضار مناخ تلك الحقبة وغناها بالأحداث الفنية والاجتماعية والسياسية، ومن إيصال صورة دقيقة لمجتمعنا العربي آنذاك للقارئ الفرنسي

باختصار، ترسم زيادة حقبة مذهلة في حريتها وطاقاتها وفرحها ومبالغاتها. وفي هذا السياق، تذكرنا أن أول منتجين سينمائيين في مصر كانوا نساء، وأن الملكة نازلي التي زُوجت في سن الرابعة عشرة إلى الملك فؤاد عاشت بعد وفاته حياة ماجنة وأمضت لياليها في كباريهات القاهرة وعرفت عددا من العشاق، قبل أن تتزوج واحدا منهم في السر.

وفي الواقع، يتبين لنا في الكتاب أن معظم الفنانين في القاهرة، رجالا ونساء، كانوا يعيشون بالطريقة نفسها، مراكمين العشاق ومسرفين في السهر والشرب، أحيانا بطريقة انتحارية، كما هي حال أسمهان مثلا، أو صباح التي تزوجت عشر مرات، أو تحية كاريوكا التي تزوجت أربع عشرة مرة.

وحول طريقة تشييدها كتابها الذي يشبه الأحجية بنصوصه ورسومه المتفرقة والمستقلة، تقول زيادة إنها بدأت أولا بخط بورتريهات للمطربات، قبل أن تتسع شبكتها تدريجيا لتشمل الخلفية التاريخية لحياتهن، كالصراع ضد الاستعمار البريطاني والفرنسي، وولادة دولة إسرائيل، ونفي الملك فاروق، وتأميم قناة السويس، ووفاة عبد الناصر.

تعود أهمية هذا الكتاب إلى تمكّن زيادة فيه من استحضار مناخ تلك الحقبة وغناها بالأحداث الفنية والاجتماعية والسياسية، ومن إيصال صورة دقيقة لمجتمعنا العربي آنذاك للقارئ الفرنسي.

وتكمن قيمة الكتاب أيضا في الطُرف الشخصية الكثيرة التي ترويها زيادة داخله وتمده بحميمية مؤثرة، كقصة جدها الذي فوجئ يوما بدخول فيروز متجر الأقمشة الذي كان يملكه في بيروت، أو قصة سفر جدها الآخر إلى القاهرة لحضور أولى حفلات أم كلثوم.

المصدر : الجزيرة