انتحار "نجيب محفوظ الثاني"!

تصميم لمقال الكاتب - إبراهيم صموئيل

إبراهيم صموئيل*

سيبقى مجهولا -حتى لدى صاحبه أحيانا- الدافعُ الحقيقي الذي يكمن خلف اتخاذ أديب أو فنان قرارا حاسما بالتوقف عن الكتابة أو الإنتاج الفني، وعادة ما يكون قراره هذا مثيرا للتساؤل والحيرة حين يأتي بعد تقديمه لمنجز ذي قيمة إبداعية يرفد الحياة الأدبية أو حقول الفنون المتنوعة، ويلفت الأنظار إليه في الوسط الثقافي!

العديد من النقاد والدارسين توقفوا -ماضيا وحاضرا- مع حال كهذه، وحاولوا تبين أسبابها ودوافعها، والبحث عن التراكمات الكمية داخل المبدع التي أدت إلى تحول نوعي في موقفه، كما سعوا واجتهدوا لإطلاق تسميات وتوصيفات عديدة تعبر عن هذا الموقف والسلوك.

وأذكر في هذا السياق الناقد الكبير رجاء النقاش، في سلسلة مقالات له نُشرت في مجلة دبي الثقافية قبل بضع سنوات، وتحدثت عما سماه "ظاهرة الانتحار الأدبي" وضرورة دراستها وتفسيرها.

وقد قدم ناقدنا مثالا مجهولا لدى الأغلبية الساحقة من القراء هو "نجيب محفوظ الثاني"! أما مَنْ يكون صاحب هذا الاسم، فيكتب النقاش معرفا به "عندما بدأ نجيب محفوظ حياته الأدبية في أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي كان له رفيق يمشي معه خطوة بخطوة حتى قيل عنه إنه نجيب محفوظ الثاني، وهذا الرفيق الأديب هو الكاتب الفنان عادل كامل، وقد أصدر روايتين: ملك من شعاع، ومليم الأكبر، كما أصدر مسرحية عنوانها: ويك عنتر".

انتحار أدبي
ورأى النقاش في توقف "نجيب محفوظ الثاني" عن الكتابة، وهو في السادسة والعشرين من العمر، انتحارا أدبيا رغم أن إصداراته تلك اعتبرها "عديد من النقاد مبشرة بميلاد أديب كبير صاحب موهبة فنية واضحة ولديه أفكار جديدة وعميقة ومهمة" وفق ما جاء في مقاله الأول (فبراير/شباط 2007).

هل التوقف عن الكتابة الأدبية أو عن الشغل الفني هو على الدوام بمثابة انتحار يُقدم عليه المبدع جراء مشاعر سوداوية داخله أو ظروف خارجية محبطة له؟

فهل التوقف عن الكتابة الأدبية أو عن الشغل الفني هو على الدوام بمثابة انتحار يُقدم عليه المبدع جراء مشاعر سوداوية داخله أو ظروف خارجية محبطة له؟ في الغالب الأعم يُنظر إلى التوقف عن الإنتاج على هذا النحو، سواء من النقاد أو المشتغلين والمهتمين بالشؤون الثقافية.

وفي الواقع ما من مكتف بالقليل من الأعمال إلا واعتُبر ظاهرة غريبة (!!) تحتاج إلى الدراسة والتحليل ونبش الخفايا، أو تم تصنيفه في لائحة من "جف ماؤهم ونضبت آبارهم"، والحال أنه إذا كان من ظاهرة غريبة حقا فهي آفة التعميم، والتعميم آفة وعلة، وهذا ليس ربطا بحال "عادل كامل" بالذات (لأني لا أعرف عن "نجيب محفوظ الثاني" غير ما أورده ناقدنا) وإنما بالنظرة السائدة إزاء المقلين في الأدب والفن.

وفي السياق ذاته، أفكّر في مبدعين ثلاثة من سورية هم سعيد حورانية (1929-1994) أحد الرواد الكبار في فن القصة القصيرة، وهو كاتب لا يمكن لباحث في القصة السورية أن يتغاضى عن اسمه وعن أثر أعماله القصصية، في حين لم يُصدِر طوال حياته سوى ثلاث مجموعات "في الناس المسرة (1954)، شتاء قاسٍ آخر (1962)، سنتان وتحترق الغابة (1964" .

صمت غريب
وكذلك أفكر في الشاعر محمد الماغوط (1934-2006) عَلَمُ قصيدةِ النثر البارز عربيا، الذي قال محمود درويش في شعره "لم يختلف اثنان على شاعرية الماغوط لا التقليدي ولا الحداثي، ولا من يود القفز إلى ما بعد الحداثة". ورغم أهمية شعره ونجوميته فقد اكتفى الماغوط بثلاثة دواوين فقط: "حزن في ضوء القمر (1959)، غرفة بملايين الجدران (1960)، الفرح ليس مهنتي (1970)".

أليس الأصل أن يعرف المبدع متى يتوقف، من أن ينضح وينضح وصولا إلى تجريف ما هب ودب تحت وهم مخادع -وإيهام من محيطين به- بأنه إنما يستخرج الماء الزلال ليرتوي به الناس العطشى؟

وأخيرا أفكر في المثقف العَلَم أنطوان المقدسي (1914-2005) الذي أجمع الأدباء والمفكرون السوريون على مكانته وعمق ثقافته وأصالتها، مما يُذكرنا برموزنا وأعلامنا المفكرين العرب الكبار، وهو ما حفز الشاعر اللبناني المعروف عباس بيضون لأن يطلق عليه لقب "سقراط السوري"، على الرغم من كونه لم يضع أي كتاب قط، ولم يُصدر أثناء حياته أي مؤلَفٍ حول أي موضوع كان!

ماذا نقول في هذه الكوكبة السورية -ومثلها العديد جدا في عالمنا العربي- ممن اكتفوا بالقليل الذي اشتهرت أسماؤهم بسببه، أو امتنعوا عن النشر أساسا؟ هل نقول: إنهم أقدموا على الانتحار الأدبي أو الفني، أو جفت قرائحهم، أو نفدت موضوعاتهم، وما ماثل ذلك.. أم نوسع مداركنا ونقول: إنهم ارتأوا التوقف أو الامتناع، ونقطة على السطر؟

والملاحظ لدى هذه الكوكبة نشاطهم في الحياة الثقافية وحضور أسمائهم فيها ونيلهم الإعجاب والتقدير العالي من مختلف الهيئات والمؤسسات، الأمر الذي يشير إلى عدم معاناتهم من الإهمال والتعتيم مثلا، وأنهم لم يكونوا يشعرون بخيبة أمل أو يأس، ولا بالإجحاف أو عدم جدوى الثقافة إذ مارسوها لعقود وعقود.

ألا نقول البداهة إن العبرة بالنوع والمستوى وليست بالكم والعدد؟ ثم أليس الأصل أن يعرف المبدع متى يتوقف، بدل أن ينضح وينضح وصولا إلى تجريف ما هب ودب تحت وهم مخادع -وإيهام من محيطين به- بأنه إنما يستخرج الماء الزلال ليرتوي به الناس العطشى؟!

إن اختلاف شخصية مبدع ما ومزاجه وميوله أو انقطاع شهيته أو تبدد رغبته، ليس دليل مرض أو علامة على عقدة لديه أو خيبة يعاني منها. فالإبداع ليس ورطة لا خلاص منها، ولا عقدا قانونيا لا فكاك منه. هو فضاء للمبدع لا ضرورة لمساءلته عن زمن تحليقه فيه، أو مداه، أو اتجاهه.

كلّ ما في الأمر أن ثمة مقلّين من الكتّاب والفنانين لا يرغبون في المزيد من الإنتاج ولو طالت أعمارهم، وأن ثمة مكثرين من الكتّاب والفنانين لا يرتوون إلا بالمزيد حتى نهاية أعمارهم.

_______________

* كاتب وقاص سوري

المصدر : الجزيرة