"العسل".. رواية تستعيد مأساة حرب البلقان

غلاف رواية "العسل"

إبراهيم الحجري

تحيل مقولة العسل التي تُبئر بها رواية "العسل" لسلوبودان ديسبو (الصادرة عن دار غاليمار 2014) عتباتها الأولى المتمثلة في العنوان، على عكس منطوقها.

فإذا كان العسل يشير إلى ذلك الغذاء الشافي الذي يمتلك حظوة كبيرة بين كل الناس، فإن الأجواء الداخلية التي تعتمر المتن الروائي يغلب عليها الطابع الدرامي الذي يوافق معكوس ما تدل عليه مفردة "العسل"، فرب قائل يقول إنه كان من الأولى أن تعنون الرواية بـ"الحنظل" أو "الجحيم".

لكن خيار الكاتب له ما يبرره، فهو يريد أن يخاتل القارئ ويموه حدسه القرائي والتأويلي، كما أن المتن الروائي يتطرق لمقولة العسل مرات عديدة، خصوصا لما زار أحد الأشخاص الطبيبة التقليدية المتخصصة في التداوي بالأعشاب التي أنقدت والده من موت محقق بعد أن افتدته منهم بما كانت تملكه من أموال جمعتها من أجل تسديد المستحقات الضريبية المتراكمة عليها عبر سنوات، وهو مصحوب بقدر كبير من العسل (خمسين كيلوغراما) كهدية من والده لها، فضلا عن الأموال التي قدمتها لذلك المجنون كي يخلصه.

وإذا كانت فكرة استرجاع الأموال لم ترقها، فإنها فرحت أيما فرح بهدية العسل الذي افتقدته تلك الأيام، خاصة وأنه مادة أساسية لتحضير العقاقير البديلة. وكم كانت حاجتها ماسة -وبالأخص مع حالة فيسكو الأقرع الذي زارها منذ مدة- من أجل التداوي من آفة القرع التي أصابته.

كما تم التطرق أيضا لهاته المقولة لحظة الحديث عن والد فيسكو الذي انصرف إبان الحرب إلى تربية النحل في الجبال، في مفارقة واضحة. وهذا يدل على أن للعسل في النص دلالة استعارية كبرى تتمثل في كونه جوهرا وكنها تتفرق عنهما الحكمة التي زاغ عنها أهل البلقان بسقوطهم في شرك دوامة الصراع الدامي.

انتقاد الحروب
ويتجسد المغزى الإنساني عبر هذا المتن الروائي في الدفاع عن الحق الطبيعي للإنسان في حياة كريمة مطمئنة من خلال استعراض مشاهد القتال الصادمة ضد المدنيين العزل، وذم الآثار الوخيمة التي تخلفها الحرب والصراعات المسلحة على الإنسان، جسديا ونفسيا، بحيث إنه ليس هناك غالب أو مغلوب، بل الكل يؤدي ثمن الحروب والخسارات، حتى أولئك الذين لا ناقة لهم ولا جمل في إيقاظ شرارتها، بل حتى أولئك الذين عارضوها.

تفنن الروائي سلوبودان ديسبو في استبطان شخصياته الروائية، وعمل على تشريح دواخلها المنفعلة مع الوضع الدامي للبلقان المتمزق بفعل الاقتتال المتوحش، مشخصا الحالات المهزوزة للإنسان البلقاني وتمزقه الداخلي

ولا يختلف الأمر إلا من حيث طريقة أداء الثمن، فالبعض يدفع أرواحه، خاصة أولئك الذين يكونون في الجبهات، والبعض يدفع أعضاءه فيترك عالة على المجتمع مُعاقا طيلة حياته، متكوما حول خسارته، يعاني عقدا نفسية واجتماعية، وهناك من يؤدي الثمن من أمواله وعائداته، بحيث تؤدي الحرب إلى ارتفاع الأسعار وكساد السلع وعجز القدرات الشرائية وتسريح العمال. وهناك من يؤديها من خلال راحته وطمأنينته، حيثُ يتفشى الخوف والنزوح والفقر والمجاعات والأمراض.

لقد تفنن الروائي في استبطان شخصياته الروائية، وعمل على تشريح دواخلها المنفعلة مع الوضع الدامي للبلقان المتمزق بفعل الاقتتال المتوحش، مشخصا الحالات المهزوزة للإنسان البلقاني وتمزقه الداخلي جراء خوفه من موت محقق، وافتقاده لثرواته ومسكنه ووفاة أفراد أسرته النشطين في الإطلاق العشوائي للنيران.

في هذا الطقس الجنائزي الرهيب، هناك امرأة تظل تكابر مدافعة عن القيم الرفيعة التي تبطش بها الأنا المضخمة ومحبة سفك الدماء، وذلك من خلال توظيف مؤهلاتها العلمية وخبرتها في مجال الطب الشعبي من أجل إنقاذ أرواح الناس مما يصيبهم من أمراض، بل وسعيها، بكل ما تملك، لتخليص الناس من العناء والألم دون أن تنتظر مقابلا.

تكمن قيمة النص الروائي في تسليط الضوء على أهمية القيم الإنسانية التي تفتقد في زمن الصراعات، تلك القيم التي تشكل "العسل" الرفيع الذي يلحم الناس ويمنح العلاقات المجتمعية حميمية ودفئا ويعطي طعما راقيا للحياة.

فالانشغال بتربية النحل، والتمتع بالطبيعة في أعالي الجبال مثلما فعل والد فيسكو، غير عابئ بمخاطر الحرب، وأصوات الرصاص في السهول المجاورة، نموذج يعاكس ذلك الاصطفاف المحموم حول السلاح، وبقدر ما يعزز هذا الأمر قيمة الحياة ويجعلها عذبة، فإن ذلك السلوك المنحط المراهن على الاقتتال وتدمير الطبيعة يقوضها ويهدمها. 

كما تناقش هذه الرواية بصورة ما العلاقة  الغامضة بين الأب والابن، فرغم نقمة الولد الأجرب "فيسكو" على والده الذي بات متشبثا في أوج الخراب بممتلكاته في قمم الجبال، غير عابئ بما يمكن أن يحدث له جراء القصف واستهداف المدنيين، فهو يسعى في رحلة محفوفة بالمخاطر إلى البحث عن والده، متحديا القصف والرصاص والقناصة، مخفيا هويته المغضوب عليها كصربي، في هذه المسارات المتاهية الملغّمة بالموت المتربص في كل آن.

ومثل هاته العلاقات مهما توترت تظل محكومة بأحاسيس تفوق الإدراك، وتجعل المرء ينساق وراءها فطريا، مهما كانت الحواجز والمسافات مثل علاقة الأمومة والأخوة والبنوة وغيرها.

كثافة السرد
على عكس ما ينتظر القارئ من مثل هذا العمل يكون مثقلا بالتحليلات النفسية، والتوصيفات الرتيبة للمناظر الطبيعية، ومشاهد الخراب والحرب، فإن الرواية جاءت محبوكة المفاصل، متواصلة الإثارة والتشويق، خالية من الإطناب الممل وشديدة الكثافة.

ليس العسل هو الشخصية الرئيسية في الرواية، بل هي يوغسلافيا، البلاد التي مزقتها الحروب الأهلية، وأجهزت في أيام على ما تمت تسويته خلال قرون من العمل

وليس العسل هو الشخصية الرئيسية في الرواية، بل هي يوغسلافيا، البلاد التي مزقتها الحروب الأهلية، وأجهزت في أيام على ما تمت تسويته خلال قرون من العمل، ولعل رغبة الروائي في الإمساك بكل هاته المسافة الزمنية، وبكل هاته التفاصيل التي تتأبى على الاختزال، جعلته يميل إلى تكثيف الزمن الروائي، وتوظيف التقنيات السردية القمينة بخلق عوالم سردية متداخلة وكثيفة الطبقات، لكن في الوقت نفسه يجب أن يكون الخطاب الروائي المؤسس قادرا على قيادة المتلقي نحو السيناريوهات المستترة من الحكاية الدرامية الكاملة الضمنية التي تستضمرها ثنايا المتن.

ويمنح احتفاء النص بخطابات متعددة إمكانية قراءته بصيغ مختلفة، حيث يقرأُها البعض باعتبارها رواية، والبعض ينظر إليها بوصفها ملحمة، والبعض الآخر يعتبرها رحلة متميزة لكونها اخترقت بلدان البلقان شرق القارة العجوز المتمزق، في حين يتناولها آخرون بكونها ذاكرة حقيقية تحتفظ بصورة محكية لمأساة جيل كامل من قاطنة الصرب والبوسنة وما كابدته من تشتت وضياع وتصفية وخراب في العمران، وهذا يجعل من النص شهادة مؤثرة على زمن وعر تكبدت خسائره المنطقة وشعوبها بفعل سيادة العمى السياسي والأيديولوجي، وسوف تتزايد قيمتها مع الزمن.

المصدر : الجزيرة