نهر الجنون!

إبراهيم صموئيل ..هل تُعتبر ملايين الدولارات المحددة ثمنا لأعمال فنانين أمثال دافنتشي وبيكاسو هي المعادل المالي لقيمٍ إبداعية خاصة وفريدة في تلك اللوحات, أم أنها نتاج شبكة ألاعيب تجارية؟

إبراهيم صموئيل*

لعل أخطر ما في المزادات التي تُقام في هذه الدولة أو تلك لبيع لوحة أو منحوتة للمشاهير مثل بيكاسو أو دافنشي أو رودان أو فان غوخ أو مودلياني، هو أن تمتد الظلال السوداء من أسواق البيع والشراء وكواليس السمسرة لتشمل عالم الثقافة وتُخيم على عقول العديد من المثقفين، حتى لكأن القيمة الفنية للعمل تنبع من التجارة هناك وتعمم على الفنانين والمثقفين هنا!

ومن المعروف أن المبالغ الضخمة -بل الخرافية التي تفوق الخيال أحيانا- المحددة من المتاحف والهيئات والمؤسسات ونخبة الأثرياء والمالكين للأعمال الفنية واللوحات التشكيلية إنما هي أسعار يتم التواطؤ على رفعها الدوري مما لا يمت، بالطبع، بأي صلة لا للقيمة الفنية الخالصة للعمل في حد ذاته، ولا للجهد البشري الذي بُذل في إنجازه، ولا للمواد الداخلة في إنشائه!

إنها سوقٌ صِرْفٌ للمتاجرة بالأعمال الفنية، حيث سعى أرباب هذه السوق عبر مختلف السبل والطرائق، وبأفانين لا تخطر على البال إلى تركيب معطيات ثم نشرها وتعميمها، بكل الوسائل الإعلامية، ثم تكريسها كحقائق لا يرقى إليها شك، ولا سبيل لمعاودة النظر فيها، أو الطعن في مصداقيتها!

الموناليزا
ويكفي أن نتذكر على سبيل المثال فقط ما آلت إليه حال لوحة الجوكندا (أو الموناليزا) لصاحبها الأشهر دافنشي بعد إدخالها في السوق التجارية الفنية، وفي لعبة الأسعار المتزايدة أضعافا عاما بعد عام.

لم يعد التعامل مع لوحة دافنشي "جوكندا" باعتبارها لوحة جميلة ولا بديعة ولا فائقة الروعة، بل أدخلت في عالم الأساطير والألغاز، وأُلبست أثواب الخرافة، وأُحيطت بهالات من القداسة والرموز

لنتذكر أنه لم يعد التعامل معها باعتبارها لوحة جميلة، ولا بديعة، ولا فائقة الروعة، ولا حتى مما يمكن أن يُوصف به أي عمل تشكيلي آخر على الأرض، بل أُدخلت في عالم الأساطير والألغاز، وأُلبست أثواب الخرافة، وأُحيطت بهالات من القداسة والرموز والدلالات والإشارات، وجُيش لها حشود من النقاد والباحثين، والمؤسسات الإعلامية المصنعة للعقول، ومن علماء النفس وعلماء الاجتماع، ودور النشر، وشبكات الاتصال، فكُتب عنها عدد كبيرٌ من الدراسات والكتب المتخصصة والرسائل الجامعية، كما أُدرجت في برامج المعاهد والمراكز وكليات الفنون الجميلة في مختلف بلدان العالم لينال أي طالب بركة هذا العمل كفاتحة له قبل شروعه في أي نشاط فني!

وجراء كل ما سبق (فضلا عن تخصيص المروحيات الحربية والمدرعات وأجهزة الرصد والحراسات وتقارير رجال الاستخبارات حين يُراد نقلها من مكان لآخر) انكبت المؤسسات المتخصصة بمساعدة العقول المخادعة -والعقول المخدوعة أيضا- على رفع سعرها إلى أرقام فلكية، والإقرار باستحقاقها تلك الملايين، إلى أن انفصلت عن التثمين مهما كان الرقم المالي (كالانفصال عن الجاذبية الأرضية) ليُصار إلى وضعها في مسار خاص داخل فلك الفن، مما لا يُؤطر في إطار، ولا يُدرج في التداول.

لم يتوقف العالم -بقيادة كبار النقاد والمفكرين- عند حدود أسطرة لوحة دافنشي هذه، بل تم السعي لترويج، وبالتالي تقديس، ما لم تره عينٌ، وذلك حين أعلن المتحف البريطاني ذات يومٍ عن اكتشاف لوحة مجهولة لدافنشي باستخدام أشعة أكس تحت الحمراء تقبع تحت لوحة "عذراء الصخور" المعلقة بالمتحف، كان الفنان المذكور قد رسمها ثم عدل عنها كما يبدو، وفي اللوحة المختفية امرأة تجثو على ركبتيها ممدودة اليد (!؟) فطاش حجر وكالات الأنباء وخبراء الفن من "لقية" تُجدد التجارة والأرباح وتُضاعف الأموال!

فن أم تجارة؟
من السذاجة والبلاهة القول إن المتاجرة بأعمال أولئك الفنانين وأمثالهم لا تقوم من فراغ, أو على خداعات وأوهام, إنما ترتكز على مستوى فني إبداعي، وقيم تاريخية مثلتها تلك الأعمال في المسار الطويل للفن التشكيلي العالمي، وهي التي لها من القيمة الإبداعية والأهمية ما لا شك فيه أبدا. هذا لا جدال حوله, غير أن ثمة أسئلة تُطرح هنا:

كم هي نسبة ما هو فن وإبداع وأهمية تاريخية وفرادة فنية إبداعية، وكم هي نسبة ما هو ترويج وتسويق وإيهام وتلاعب بالعقول، في أي عمل من الأعمال التي تُعقد المزادات لأجلها؟

هل ملايين الدولارات المحددة ثمنا لأعمال أولئك الفنانين (وغيرهم ممن قُرر إدراج أعمالهم في السوق) هي المعادل المالي لقيمٍ إبداعيةٍ خاصة وفريدة في تلك اللوحات, أم أن هذه الملايين نتاج شبكة ألاعيب تجارية؟  

وهل تُرى القيم الإبداعية -والتاريخية أيضا- مبثوثة فقط في الأعمال المدرجة على لوائح أساطين هذا النوع من التجارة, وغائبة تماما عن أعمال العالم الفنية الأخرى؟  

ثم كم نسبة ما هو فن وإبداع وأهمية تاريخية وفرادة، وكم نسبة ما هو ترويج وتسويق وإيهام وتلاعب بالعقول، في أي عمل من الأعمال التي تُعقد المزادات لأجلها؟

ومن شديد الأسف أن حكاية نهر الجنون لتوفيق الحكيم لا تسري على عقول العامة فحسب, وإنما أيضا على فنانين وكتاب ودارسين ومثقفين عرب نهلوا, هم أيضا, من نهر الجنون إلى درجةٍ لو حدث لفنان أو كاتب أو ناقد فني أو أستاذ جامعي أن أشهر رأيه أمامهم بأن اللوحة الدافنشية إياها -أو أية لوحة من المصنفات إعجازية- لا تضاهي غيرها, لتم على الفور إبلاغ لجنة موسوعة غينيس بأنه عُثر على الشخص الأكثر جنونا في العالم!
____________

* كاتب وقاص سوري

المصدر : الجزيرة