الأعرابي الذي تزعم الحزب الشيوعي السوفياتي!

تصميم صورة مقال للكتاب "ناصر يحيى" لصفحة الثقافة، وهذا المقتبس: كان لخروتشوف بُعدٌ إنساني صاخب تجسد في عدد كبير من المداعبات الجارحة والتعليقات الساخرة والمؤلمة في بعض الأحيان

ناصر يحيى*

كان الأمين العام السابق للحزب الشيوعي السوفياتي نيكيتا خروتشوف أحد أشهر الساسة العالميين قبل أن يطيح به رفاقه عام 1964. وبالإضافة إلى دوره السياسي، فقد كان لخروتشوف بُعد إنساني صاخب بمعنى الكلمة تجسد في عدد كبير من القفشات، والمداعبات الجارحة، والتعليقات الساخرة المؤلمة في بعض الأحيان، وهي بمجملها عكست جوهره كفلاح معجون بالطين سمحت ظروف الدولة الشيوعية أن يترقى حتى وصل إلى قمة الدولة العظمى الثانية في العالم، لكنه ظل على بدائيته وتلقائيته: ألفاظه جارحة ضد العدو الرأسمالي والرفاق الشيوعيين على حد سواء، وتذكّر بطرائف الأعراب في جزيرة العرب!

نيكيتا خروتشوف لم يكن أيدولوجيًّا متقعرا يرتاح للمكاتب الفارهة، فقد اكتسب صيته من نجاحه في أعمال وطنية كبيرة، فهو الذي أشرف على بناء ميترو موسكو الشهير، وأثناء الحرب العالمية الثانية أشرف على نقل المصانع من غرب روسيا إلى شرقها تفاديا لتدميرها أو نهبها على أيدي الغزاة النازيين، وفي الحرب كان المسؤول السياسي في معركة ستالينغراد التي تعد إحدى المعارك التي غيرت مسار الحرب! 

أعرابي في حضرة الملكة!
غلبت بدوية خروتشوف التقاليد الدبلوماسية والمراسيم الملكية العريقة أينما حل، والناس يسمعون عن غضبته الشهيرة وهو يقف على منصة الأمم المتحدة حتى وصل به الأمر أن يخلع حذاءه ويضرب به المنصة المسكينة احتجاجا على ممارسات الإمبريالية! لكن في سجل بداوته حكايات عديدة واحدة سجلها بحسرة وزير خارجيته ديمتري شيبيلوف بعد لقاء مع رئيس فنلندا، حيث ظل خروتشوف طوال الاجتماع يهرش صدره وتحت إبطيه، وكأن ملابسه مملوءة بالقمل والبراغيث!

في ذروة أزمة سور برلين 1960، وصف خروتشوف الجنرال لوسيوس كلاي ممثل الرئيس الأميركي كينيدي بأنه يصلح لأن يكون جنرالا كما أصلح أنا لأكون صانع أحذية!

وعلى عكس الصورة السابقة البائسة، فقد أثار إعجاب رموز الأرستقراطية الإنجليزية في حفل استقبال نظمته الملكة إليزابيث الثانية على شرفه، وجعلهم يضحكون بهستيريا وهم يدقون على المائدة بالملاعق والسكاكين إعجابا بكلامه عندما وقف ينتقد المستعمرين الإمبرياليين في عقر دارهم والذين يصورون الروس وحوشا وحيوانات.. ولإثبات كذب هذه الدعايات استدار فجأة أمام المدعوين وانحنى مبرزا لهم مؤخرته بعد رفع ذيل معطفه وهو يقول: انظروا.. هل يوجد معي ذيل؟

ووصلت وحشية بداوته منتهاها وهو يسأل مدير المراسيم البريطاني مشيرا إلى الأمير فيليب زوج الملكة:

– قل لي: ماذا يعمل هذا الرجل؟

وجحظت عينا المدير وهو يجيبه مفزوعا: سيدي، هذا.. هذا زوج الملكة!

فرد عليه باستهتار: لا.. لا.. أنا أقصد: ماذا يعمل في.. النهار؟

الزعيم الصيني ماو تسي تونغ خصمه اللدود لم يسلم أيضا من لسان خروتشوف، على خلفية دعوة الأول إلى الثورة المستمرة، واتهام الصين للروس بمهادنة الإمبريالية دون مراعاة حقائق ميزان القوى العالمي! ومع حقيقة أن الصين لم تكن تملك إلا الإدانات اللفظية تجاه الاعتداءات الأميركية على جزرها، سخر خروتشوف في رسالة بعثها إلى ماو من سياسة التطرف الماوي قائلا "إن حالك مثل حال زوج يضبط زوجته كل يوم في الفراش مع رجل غريب، وهو كل يوم يهددها بالطلاق لكنه.. لا يفعل!".

وحتى تعليقاته على الأحداث العالمية كانت بنفس القدر من السخرية، فالحزبان الجمهوري والديمقراطي اللذان يتداولان الحكم في واشنطن وصفهما بأنهما "حذاءان لنفس القدم"، وعندما رأى الجماهير المصرية أثناء حفل تدشين تحويل مجرى النيل يهتفون ويصفقون بجنون لكلمة الرئيس العراقي عبد السلام عارف على عكس ما حدث معه، أصابه الغيظ وأعلن استغرابه لكل هذا التأييد للرجل.. المِعزة!

وفي ذروة أزمة سور برلين (1960) وصف الجنرال لوسيوس كلاي ممثل الرئيس الأميركي كينيدي بأنه يصلح لأن يكون جنرالا كما أصلح أنا لأكون صانع أحذية! ومرة وصف نيكسون نائب الرئيس إيزنهاور بأنه محدود الذكاء لا يوحي بالاحترام، كأنه حانوتي حقير محتال لا يتورع عن بيع سمك الرنجة الفاسدة أو السكر المشبع بالكيروسين!

وللرفاق نصيب!
رفاق خروتشوف نالهم أيضا شيء من السخرية والتجريح، وربما كان خروتشوف أول وآخر زعيم لحزب شيوعي يلقي نكتة في مؤتمر عام، فعلى إثر انتقاداته العنيفة لانتهاكات حقوق الإنسان والجرائم البشعة في عهد ستالين، أرسل إليه أحد المندوبين ورقة يسأله عن سكوته عن كل ذلك أيام ستالين؟ فقرأ خروتشوف السؤال علنا على القاعة، وطلب من صاحب السؤال أن يكشف عن شخصيته.. وطبعا لم يجرؤ الرجل على ذلك، فعلق الأمين العام قائلا: ونحن كنا كذلك نخاف أن نعلن عن مواقفنا أيام ستالين!

بُعد نظر خروتشوف جعله يعمل على تجديد التجربة الشيوعية، وقد كان مقتنعا أنها سوف تدفن الرأسمالية خلال عشرين سنة، لكنه اصطدم في الأخير بالجمود الشيوعي الشهير، واتهم رفاقه في القيادة قائلا: إنهم لا يفهمون روح العصر

وفي يوم شارك وزير إعلام كينيدي الصحفي الشهير بيير سالينغر في رحلة صيد الحمام في ميدان خاص، لكنه لم يصب إلا واحدة في ست محاولات، فعلق على فشله "لا بأس.. لدي جنرالات لا يستطيعون أن يصيبوا شيئا أيضا!". وبعد أن راح يحدث ضيفه الأميركي طويلا عن الزراعة توقف ليقول "لا أعرف لماذا أضيع وقتي معك.. إنك لا تعرف شيئا عن الزراعة.. لكن لا بأس فحتى ستالين كان لا يعرف شيئا عن الزراعة!".

وروى يوما أسلوبه في العمل مع البيرقراطية الروسية، فقال إنه طلب من السكرتارية أن يقسموا التقارير إلى مجموعتين: الأولى المهمة التي يجب أن أقرأها، والثانية التي يجب أن لا أضيع وقتي في مطالعتها! ثم أبدأ في قراءة المجموعة غير المهمة لأنها دائما أكثر أهمية من المجموعة المهمة!

بُعد نظر الرجل جعله يعمل على تجديد التجربة الشيوعية، وقد كان مقتنعا أنها سوف تدفن الرأسمالية خلال عشرين سنة، لكنه اصطدم في الأخير بالجمود الشيوعي الشهير، واتهم رفاقه في القيادة قائلا "إنهم لا يفهمون روح العصر.. لقد تعبت وفقدت صحتي وحيويتي مع رفاق لم يفهموا شيئا ولا يريدون أن يفهموا شيئا!".

وقبيل يوم الانقلاب عليه وإزاحته من السلطة، لاحظ خروتشوف مقدمات عزله عندما أرسل معلومات وصلته عن مخطط لإسقاطه إلى رئيس المخابرات ورئيس مجلس السوفيات الأعلى، لكنه لم يتلق ردا! وعندما عادت سفينة فضاء روسية لم يتصل به رائدا السفينة لتحيته كما جرت العادة! وفي الأخير استدعي إلى جلسة طارئة للجنة المركزية للحزب الشيوعي، وفوجئ بمقترح مطروح للتصويت لإعفائه من مسؤولياته.. ولم يتردد خروتشوف اليائس من إصلاح الحزب، وفاجأ المتآمرين عليه بأن كان.. أول من رفع يده موافقا على مقترح الإطاحة به!
_______________
* كاتب صحفي يمني

المصدر : الجزيرة