توماس غونزالس.. العزلة والموت في نيويورك

غلاف رواية (النور المتلاشي) للكولومبي توماس غونزاليس

هيثم حسين

يلفت الكولومبي توماس غونزالس (ميدلين 1950) -في روايته "النور المتلاشي"- النظر إلى واقع أميركا اللاتينية والتأثير الذي خلفته الدكتاتوريات على كثير من الناس الذين وجدوا أنفسهم في منافٍ احتضنتهم، ومشكلة الجيل التالي من أبناء المنفيين وواقع الاندماج في مجتمعاتهم الجديدة، وإشكالية الانتماء واللغة بين أماكن اتسمت فيها القسوة بالوحشية في سلوكيات السلطة وممارساتها، وأماكن أخرى اتسمت بقسوة الحياة ووحشيتها في ظل غربة متفاقمة متجددة.

يثير غونزالس في روايته -التي نشرتها دار دال السورية بترجمة راغدة خوري العام 2014- السجال حول موضوع مهم يظل موضع خلاف واختلاف، وهو ما يسمى بـ"الموت الرحيم" الذي يوصف بأنه إراحة للمريض في الحالات المستعصية؛ ومدى صوابية الأمر من عدمه. ولا يدخل في النقاشات القانونية أو الترتيبات الطبية، والاتفاق أو الاختلاف إزاء المسألة، بل يعتبرها أمرا واقعا أو حلا اضطراريا، ذلك أن برمجة موعد الموت تشكل النقطة التي يستهل بها عمله.

عنف الواقع
يسلط غونزالس الضوء على جوانب من الواقع الأميركي في أكثر من مدينة، وبشكل خاص في نيويورك، فتراه يستحضر شخصيات من أكثر من مكان من العالم يجمعها في إطار أميركي، ليظهر مدى التغيرات الحاصلة عليها، ومدى العزلة القاهرة التي قد يشعر بها المرء في مدينة مزدحمة حين يجد نفسه مسكونا بالألم والضياع.

يلفت الكولومبي توماس غونزالس النظر إلى واقع أميركا اللاتينية والتأثير الذي خلفته الدكتاتوريات على كثير من الناس الذين وجدوا أنفسهم في منافٍ احتضنتهم، ومشكلة الجيل التالي من أبناء المنفيين وواقع الاندماج في مجتمعاتهم الجديدة

يمنح الكاتب بطله -وهو رسام عجوز يقيم في مدينة لاميزا الواقعة في قلب كولومبيا- زمام حكايته لفقده ابنه الذي تعرض لحادثة سيارة جعلته مشلولا. يبرز كيف أن مأساة الأب تتمثل في رؤية ابنه الشاب عاجزا أمامه دون أن يتمكن من تقديم أية مساعدة له للتخفيف من آلامه المتعاظمة، بحيث يصل إلى درجة تمني الموت له كي يرتاح من عذابه القاتل الذي لا يبارحه، وذلك بالتوازي مع فقدان الجسد لهيئته وهيبته وبروزه كشبح في هيكل آدمي مشوه.

ويركز الراوي على عدد من الشخصيات الوافدة إلى أميركا من الشرق والغرب، فتحضر في السياق شخصية البنغالي ذي الديانة السيخية، سائق سيارة الأجرة التي كان يركبها جاكوبو ابن الراوي العجوز، ويفسر معنى الكلمة وإشاراتها وارتباط البنغالي بعاداته وتقاليده حتى في بلد غريب، وإن بدا بشكله وأزيائه وممارساته الطقوسية غير متجانس مع صورة المدينة نفسها، وكذلك الروسي الذي يتنكر للغته ويحاول إظهار نفسه أميركيا.

الرسام الذي يكون قد بلغ حدا من الشهرة يسهل له تنقلاته، ويدر عليه مالا وفيرا؛ يجد متعة في الكتابة، يتوسل بها سبيله للتخفيف من آلامه، يحاول التقاط أسرار الزمن، وتأثيره عليه وعلى أعماله وشخصياته ولوحاته، وعلى المحيطين به. وتشكل له الكتابة كالرسم بهجة ومتعة، يتخفف بها من أحزانه وأعبائه التي تثقل كاهله، ويتواصل من خلالها مع الآخرين، يكون قريبا منهم، يكشف لهم عما ينتابه من مشاعر، وينقل لهم خبراته الحياتية وآراءه وتصوراته التي راكمتها التجارب والأيام.

يتأمل الراوي لوحات ورسومات من عصور مختلفة، يحاول اكتشاف ما وراء الوجوه البادية فيها، يتمعن فيها، يسيح بخياله عبر الزمن، تتبدى له فينوس جميلة تحت الضوء الذي ينير اللوحة، ويجدها مميزة بالتعبير المتزن للحزن البعيد عن أي ميلودراما، والذي يترافق عادة مع من يواجه يوميا الألم العنيف، ثم تراه يعود للتفكير في الوجوه الحزينة لنساء المستعمرات الرومانية في مصر، وبالحزن الذي تعبر عنه بعض هذه الوجوه.

إيقاعات ألم وأمل
يعالج غونزالس في روايته موضوع الزمن، وتتبدى أنها القضية المحورية إضافة إلى انشغالاته الواردة في سياقها، يتحدث عن الهوة المعتمة للزمن، يصف الزمن بأنه عبارة عن مادة غريبة، مادة مطاطة تتعلق بالفرح أو بالحزن، وأنه يرتب إيقاع الحياة ويمر كالعجلة، وفي كل دورة يسحق عظام الإنسان أكثر فأكثر.

الخيط اللامرئي الذي يظل ممتدا على طول الرواية هو خيط الألم والضوء معا، الألم على فقد الحياة بريقها ومعناها، والضوء الذي يخفت مع فقدان الحياة لدرجة التلاشي، ويكون الضوء المنبعث من داخل المرء هو الأكثر فعالية وتأثيرا

يتأرجح الراوي بين الألم والأمل، يقول "كم هو قاس ذاك القول الشائع الذي يزعم أن الأمل هو ما نفقده في النهاية". يقرر الاستمتاع بعزلته، والكف عن أي نشاط متعلق بالكتابة أو الرسم، ليكتفي برؤية العالم بعيون العقل والاستماع إلى الموسيقى والإصغاء إلى تغريد عصافير الدوري. يقول إنه عاش حياة جيدة، عرف الجانب الآخر للألم، وشعر أحيانا أنه لامس المطلق. ويكون سؤاله الختامي معبرا عن قلق لا يهدأ وجمر متقد لا ينطفئ في داخله "ما الذي يمكن لكائن بشري أن يأمل أكثر من ذلك؟".

الخيط اللامرئي الذي يظل ممتدا على طول الرواية هو خيط الألم والضوء معا، الألم على فقد الحياة بريقها ومعناها، والضوء الذي يخفت مع فقدان الحياة لدرجة التلاشي، ويكون الضوء المنبعث من داخل المرء هو الأكثر فعالية وتأثيرا في مسألة الفقد والألم وما يخلفه الزمن من آثار، بحيث إن الألم الذي ينشأ كبيرا مدمِّرا يصغر كخيط النور نفسه وقد يتلاشى في مفترقات حياتية ومنعطفات قاهرة.

ويقسم غونزالس روايته إلى فصول قصيرة يروي فيها مشاهد متناثرة من الحياة في جمل قصيرة، بحيث إن أسلوبه ينسجم مع شخصية بطله العجوز الذي يبدو متعبا، مستعينا بأقل العبارات وأكثرها اقتصادا وتكثيفا للتعبير عن داخله، وكأنه يفسح بذلك المجال للقارئ لمشاركته انطباعاته إزاء هذا الأمر أو ذاك، وتكون لغته الوصفية مساعدة على تحريض الخيال، بحيث يجد القارئ متعة في تخيل شخصياته في مواقف مختلفة، وتخيل ردود أفعالها وتصرفاتها.

يعتمد غونزالس طريقة الحبكة المنفلتة من صرامة التدرج وتصاعد الأحداث، وتكون سلسلة الفصول دائرة في فلك حياة العجوز، لكن دون مراعاة ترتيب الأزمنة أو الانتقال بين الأمكنة، إذ ينتقل من مرحلة إلى أخرى دون أي تمهيد أو إقناع، كأن ينتقل من الشيخوخة إلى الطفولة، ويكون الاسترجاع الزمني طريقة الذاكرة في التحرك السلس الذي يبلغ درجة من إرباك القارئ نفسه لأنه يتشعب وينطلق في أكثر من اتجاه.

المصدر : الجزيرة