"قصاصات غيم".. القصيدة ترميم لصدع العالم

غلاف ديوان قصاصات غيم للشاعرة إكرام عبدي
الوجع الموريسكي ونكبة الأندلس من مصادر إلهام الشاعرة إكرام عبدي (الجزيرة)

إبراهيم الحجري-الدار البيضاء

تتخذ الشاعرة المغربية إكرام عبدي في ديوانها الجديد بعنوان "قصاصات غيم" -الصادر هذا العام عن دار العين بالقاهرة- القصيدة مرفأ للعبور نحو أماكن قصية من الروح، وتلامس من خلالها بؤر التوتر في الذات، وتسعى إلى التصالح معها عبر فعل الكتابة.

وسبق للشاعرة أن أثرت المكتبة الشعرية العربية بديوانيْ "لن أقايض النوارس" و"يدثرني الغامض فيك"، اللذين يفيضان بنغمة رومانسية عميقة تستجيب لجوانح الداخل وسياق الحياة، وتنسجم مع تلك الرغبة الملحة في الإقبال على الحياة بنهم متجدد.

قسمت الشاعرة ديوانها إلى سبع قصاصات: "سفر"، و"صمت"، و"أنثى"، و"العشق"، و"بحر"، و"منفى"، و"الحرف". وكل قصاصة تنفرد بخصوصية فنية ونزوع موضوعي معين، وإن كان يربط بينها خيط رفيع، حيث إنها كلها تخاطب جانبا من جوانب شخصية الشاعرة، وتلامس بعدا من أبعاد مشاعر الذات.

مرثية أندلسية
تستلهم الشاعرة البُعد الدرامي لنكبة الموريسكيين وسقوط المدن الأندلسية تباعا، مصورة كل مدينة في قالب شعري متميز عن الأخرى، وكأنها تستشعر أنين الجذور الأندلسية التي تتنفس عبقها الآتي من الشمال، ومن نفحات أشعار لوركا وابن زيدون وأبي البقاء الرندي وباقي من صوّروا تلك الفاجعة الإنسانية، وهي تتشكل في إبانها أو في سياق مختلف.

وتستعيد الشاعرة الأحاسيس التي كانت تستعر في دواخل هؤلاء بالحرارة نفسها، وبالدفق الشعوري الملتبس ذاته، لكن ربّما بألم مضاعف، ألم الفقدان، وألم الاستدعاء، وألم نكوص الذات العربية التي تتسربل في الجراح.

تستلهم الشاعرة البُعد الدرامي لنكبة الموريسكيين وسقوط المدن الأندلسية تباعا، مصورة كل مدينة في قالب شعري متميز عن الأخرى، وكأنها تستشعر أنين الجذور الأندلسية التي تتنفس عبقها الآتي من الشمال

ليست إكرام عبدي الشاعرة الأولى التي استلهمت التجربة الأندلسية والمحنة الموريسكية، فجعلت منها مادة للكتابة وإنتاجا فائض المعنى، بل سبقها كثير من الشعراء العرب والمغاربة مثل الطريبق، والميموني، والطبال، وبنيس، وراجع، والكنوني، لكنها تميزت باستبطان المعاناة عبر فعل السفر، وفعل الحكي، وفعل الكتابة.

هذه الأفعال تصير سلوكا واحدا يعتمر الذات، فتسافر الشاعرة في الزمان والمكان الأندلسي حقيقة ومجازا، وتعابث هذه الذاكرة المشوشة والقلقة، عبر فعل السرد الذي تهيئه المتراكمات الشعرية التي تؤرخ للتجربة المريرة التي عاشها الشعب الأندلسي الذي تربطه بالشاعرة صلة الدم والعروق ونفحات التربة الأصيلة المطلة من عبق التاريخ الإنساني المشترك.

وبينما تنصرف الشاعرة بوجدانها الجريح إلى لملمة أشلاء هوية ممزقة، تنسل الأنامل خفية لمباغتة هذا الخيال المسافر، في سعي لاقتناص تفاصيل غير مشاهَدة، تورق في الدم والخلايا، فلا تفلح غير الحروف في ملامسة أطياف ذكرى بائدة من زمن مشع، وحضارة رائدة.

ولا شيء يجمع هذا التفاعل المجتلب داخل ذات رهيفة الإحساس اعتادت على الملامسة الخفيفة للمعاني، واقتفاء أثر الشعور الرهيف لأنثى تحب الحياة والفرح والجمال، سوى جوانح القصيدة.

وتقول في هذا الصدد: "تنزع هندسة السماء/ الشعر عن سدرة عرشه/ وأنا في محراب الصمت/ أتيه في حقول السماء/ ألتقط زخارف الكلم/ منمنمات العشق/ نيازك الأمس/ أودعها بلطف/ في حضن القصيدة".

عشق صوفي
تكاد تكون التيمة الأساس التي تتمحور حولها الكتابة الشعرية في هذا الديوان؛ هي تيمة "العشق" بالمعنى المتعدد والمختلف، وليس المعنى القاموسي المعروف.

وبما أن الشاعرة يدور ينبوع شعريتها حول ذاتها الهشة التي تفيض بالنزوع الرومنسي، فإن الأنوثة تظل المرجع الدلالي الذي يُغذّي تربة القصيدة حتى في لحظات العنت، ويسقيها بماء الورد حتى في أشد المنعطفات الشعورية حلكة.

تسمو الذات الشاعرة بمفهوم الحب، وترتقي به درجات تعلو وتنخفض، وهي تحكي لمخاطب مجهول، تخصص له أبواب مجازفاتها اللغوية والمجازية

تسمو الذات الشاعرة بمفهوم الحب، وترتقي به درجات، تعلو وتنخفض، وهي تحكي لمخاطب مجهول، تخصص له أبواب مجازفاتها اللغوية والمجازية، فتخرج به عن المألوف والمتداول والمستساغ.

تتكئ التجربة العشقية في ديوان "قصاصات غيم" على المرجع الصوفي، فتستعيد من باب التقدير والتمثل ما قاله شعراء المحبة الإلهية، وتدبج به عتبات قصائدها، وتستعير حرارة تعبيره، وقوة ترميزه، ونفاده السحيق نحو البواطن، وترفعه عن الملموس المترف، والشهواني المقرف. فتصير ذاتها المؤنثة مركز القصيد، ومركز "طفحها" اللغوي، والمدار الذي تلتف حوله أطياف العشاق الذين يصدرون عنها، ليعودوا إليها طالبين الغوث والملاذ من لحف شوق حارق لا يهدأ أواره إلا على عتبات الحروف وأسرارها الملغزة في التجربة.

تغدو الكتابة بذلك الكتابة من لحظة اختبال بالعالم المزيف، وامتلاء بالمعنى المفقود، وإنشادا لفكاك من وحل المعيش، وقلق المسارات المعتمة.

تبدأ الشاعرة بمقارعة ذاك الإحساس بالعزلة الذي يولده الصمت المرتفع في أقصى حالاته، بما يولّده من صفاء التفكير، واحتكام للذات، ومساءلة العواطف، واغتراب في منافي الدواخل النفسية التي قلما يرتادها الشخص إلا في حالات الانعزال والانكفاء على النفس، والسفر في غياباتها المعتمة والغامضة، بما تحمله من ألم وتشنج وقسوة على الذات، وبما تفضي إليه من شحوب، وبما تؤدي إليه من فرح. تلك الهواجس الغامضة التي تلتبس بمعاني الموت والسفر والضعف والفناء والتيه في المنافي القاسية.

وتنتهي الشاعرة بقصاصة البحر التي بقدر ما تشدها رحابته، يخيفها سديميته وسرابيته المؤديان إلى التلف والتشظي والضياع.

تقول الشاعرة "وحيدة/ في منفاي المخملي/ أبحر في الغياب/ لا أرسو إلا على بحري/ المفتون/ بملوحة حزني/ تداعبني/ موجة هاربة/ من ندوب الرمل".

المصدر : الجزيرة