"رجال وذئاب".. التاريخ في مصر يعيد نفسه

غلاف كتاب رواية " رجال وذئاب"

محمد أعماري

على الرغم من أن الروائي المصري الدكتور نجيب الكيلاني انتهى من كتابة روايته "رجال وذئاب" أواخر عام 1985، وأن أحداثها تمتح من فترة تاريخية مرت على مصر منذ عقود فإن قارئها اليوم يشعر وكأنها كتبت لتعكس ما تعيشه "أم الدنيا" هذه الأيام.

الكيلاني -الذي توفي منذ نحو عقدين- ربما عكس في روايته هذه بعض ما عاشه وعايشه قبل أن يغادر مصر إلى الإمارات العربية المتحدة، فقد نال نصيبه من سجون الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، وعاصر أحداثا مرت بها البلاد بثت الخوف في النفوس، لكنه لم يكن يدري أن التاريخ سيعيد نفسه، وأن سجون طرة والحربي والعقرب وأبو زعبل وغيرها ستعود للامتلاء بمعتقلين من  الطينة نفسها لأولئك الذين ملئت بهم في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وبالتهم نفسها تقريبا.

تستعيد الرواية جزءا من الأحداث التي عاشها المصريون بعد ثورة يوليو/تموز 1952، خاصة بعد تولي جمال عبد الناصر الحكم عام 1954، وما تلا ذلك من توتر بين أجهزة الحكم ومعارضيها، خاصة جماعة الإخوان المسلمين، وتصور جوا من التجييش العام ضد هذه الجماعة وموجة من التخويف منها، تماما كتلك التي تعيشها مصر هذه الأيام، مع فارق أنها أصبحت اليوم في خيال كثيرين توصم بـ"الإرهابية" بعد أن كان أقصى ما توصف به من قبل أنها "رجعية" أو "محظورة".

تشابه الأحداث والظروف التي تتحدث عنها الرواية مع ما يجري في "أرض الكنانة" منذ الانقلاب العسكري الذي حدث في 3 يوليو/تموز 2013 يجعلها تبدو وكأنها كتبت عن عهد عبد الفتاح السيسي وليس عهد جمال عبد الناصر

قصص الانتقام الرهيب
تشابه الأحداث والظروف التي تتحدث عنها الرواية مع ما يجري في "أرض الكنانة" منذ الانقلاب العسكري الذي حدث في 3 يوليو/تموز 2013 يجعلها تبدو وكأنها كتبت عن عهد عبد الفتاح السيسي وليس عهد جمال عبد الناصر، حتى أن بعض الجمل الواردة على ألسنة بعض الشخصيات في الرواية لو جردت من سياقها لبدت وكأنها مقتطفات من أحد تقارير جمعيات حقوق الإنسان التي كثرت انتقاداتها هذه الأيام لما آل إليه الوضع الحقوقي في مصر.

فمثلا يقول الشيخ علام العيسوي -والد فضيلة إحدى الشخصيات الأساسية في الرواية- وهو متأثر لهول ما يصله من أخبار تعذيب المعارضين، خصوصا المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين "لقد عاصرت الخديوي والإنجليز.. والملك فؤاد وفاروق.. وثورة 1919، ولم أشهد قوة ولا عنفا كالذي يجري الآن، أهي رجعة إلى عصور الغاب، تلك هي الرجعية الحقيقية يا ابنتي.. من يزعم أن هؤلاء آدميون؟".

وفي مقطع آخر تتردد الفكرة نفسها حيث يصف الراوي الوضع العام قائلا "وأخذ الناس يرتجفون من الخوف، وانتشرت أخبار مرعبة عن قصص الانتقام الرهيب خلف القضبان وأصبح الناس -كل الناس- يتوجسون خيفة من مجرد الصلاة في المساجد، أو حمل كتاب من كتب الثقافة الإسلامية، وكانت الوسيلة المفضلة ليحمي الفرد نفسه أن يهاجم الإخوان بعنف ويرميهم بكل نقيصة ورذيلة، مثل ما يفعل الرئيس في خطبه التي تذاع صباح مساء في الإذاعة والتلفزيون، وتنشر في الصحف، وحاولت كل أسرة أن تحيط شبابها بسياج من النصائح.. ولم يعد أحد يجرؤ على زيارة أسرة من أسر المعتقلين لمجرد المواساة أو العزاء".

وتصور الرواية هذا "الهلع" في موضع آخر عندما يستبق بطلها الدكتور عادل فتوح -ذو النفوذ الواسع في أجهزة الحزب الحاكم وأجهزة الدولة التي جندته مخبرا- أسئلة زميلته فضيلة بشأن زميلهما رشدي القصاص -المحسوب على جماعة الإخوان والذي اعتقل بمكيدة من الدكتور عادل- قائلا "على فكرة لن تطلبي مني التوسط له.. هذه قضية مختلفة تماما عن قضية أختك.. لا يمكن التدخل بأي حال من الأحوال في القضايا السياسية أو التنظيمات السرية، يمكن التوسط في أي شيء إلا قضايا الإسلاميين.. مفهوم".

بعض الجمل الواردة على ألسنة بعض الشخصيات في الرواية لو جردت من سياقها لبدت وكأنها مقتطفات من أحد تقارير جمعيات حقوق الإنسان التي كثرت انتقاداتها هذه الأيام لما آل إليه الوضع الحقوقي في مصر
صحافة الإثم الأكبر
بدورها، تتحدث فضيلة في مكان آخر من الرواية عن الصحافة وانخراطها في تمجيد النظام القائم والمبالغة في الحط من قدر معارضيه وتخوينهم، فـ"الصحفيون لا يعرفون الحياد، إنهم متحيزون دائما لوجهة نظر ما، سواء أكان ذلك بالحق أو بالباطل، هذا مع أن الصحفيين يظهرون على الورق خلاف ما يبطنون، فمقالاتهم اليومية تسبح بمجد الرئيس والثورة، وأحاديثهم الخاصة تسب وتلعن".
 
لتنتهي فضيلة بعد ذلك إلى خلاصة مفادها أن "الصحافة هي الإثم الأكبر في عصرنا"، وهو وصف يتقاطع مع ما يعتقده كثيرون اليوم بشأن ثلة من وسائل الإعلام المصرية التي تبالغ في نصرة النظام السياسي وتجتهد في تخوين معارضيه.

كما أن الرواية تقدم بين ثناياها صورة مخفية ترتسم في الذهن عن هذا النوع من الصحافة التي تخل بواجباتها، فسعد -شقيق فضيلة- صحفي يحرص تمام الحرص على أن تتثبت أخته وتتحرى في سيرة الدكتور عادل الذي ينوي الزواج بها، "التحري واجب -يقول سعد- فلا يصح أن تتزوج أختنا من رجل مجهول الهوية.."، ويمضي إلى أن يقول "لا بدّ أن نكلف شخصا كفؤا بالتحري عن عادل هذا، وعلاقاته وأسرته.. وليس في ذلك أي افتئات أو تجنٍ عليه.. وأنا لي صديق مخبر صحفي بوكالة أنباء الشرق الأوسط يستطيع أن يحصل على أدق التفاصيل.. إنه داهية".

ولكن هذا التحري وهذه الكفاءة يغيبان في موضع آخر من الرواية عندما يجيب سعد أخته في حوار عن الصحافة ويحاول تبرير انحرافها عن دورها ورسالتها، قائلا "إن هدف الصحافة التعبير عن إرادة الحاكم وفلسفته، هذا هو واقع الأمر، ووسيلتها التعبير عن صدق تلك الفلسفة ونجاحها وإتيانها بالمنجزات، بل والمعجزات.. الصحافة مؤسسة حكومية.. ونحن نأخذ أجورنا في هذا الإطار.. ولو خرجنا عن ذلك لاتهمنا بالغباء والخبل.. بل الخيانة، نحن مجندون يا عزيزتي الدكتورة..".

ليس الأدب بالضرورة انعكاسا مباشرا للواقع أو رواية تأريخية لأحداثه، لكن الأديب ابن بيئته ولا يستطيع أن ينفك عن الواقع الذي لا بد أن يترك أثرا -ولو خفيا- على أدبه، والرواية التي بين أيدينا لا "تؤرخ" لفترة من تاريخ مصر فقط، بل تؤكد أن لكل عصر "رجاله وذئابه"

سلطة تأكل أبناءها
ولم تنسَ الرواية المؤسسات الدينية في مصر -خاصة الأزهر الشريف- إذ تلمح في أحد مقاطعها إلى تحريف دور هذه المؤسسات والرقابة عليها وتسخيرها لغير ما جعلت له، فقد دعا بطل الرواية الأزهر الشريف إلى أن "يلعب دوره التاريخي الرسمي في كشف مناورات المتاجرين باسم الدين، وأشار إلى أن الخطر ليس من جماعة الإخوان المسلمين وحدها، ولكن من كل من يمارس أي نشاط ديني حتى الجماعات الدينية غير السياسية وفرق المتصوفة بل ونشاط الكنيسة".

وفي هذه الفقرة شيء من صدى الواقع الحالي، فهذا "الدور التاريخي" جر إليه شيخ الأزهر حاليا الدكتور أحمد الطيب هذه المؤسسة الدينية، فبارك الانقلاب العسكري إلى جانب رأس الكنيسة البابا تواضروس، كما أن مفتي مصر السابق الدكتور علي جمعة تفنن في "كشف مناورات المتاجرين باسم الدين" حتى بلغ به الحد أن يصفهم بالنتانة ويمجد قتلهم ويدعو السيسي إلى أن "يضرب في المليان".

ومن المواقف التي تصورها رواية "رجال وذئاب" وتجد لها صدى في الواقع المصري الحالي موقف "تأكل فيه السلطة أبناءها ومؤيديها"، فبطل الرواية الدكتور عادل فتوح -الذي أسدى للنظام القائم خدمات جليلة وتفنن في الإيقاع بالمعارضين وعمل على محاصرتهم والتشهير بهم- انتهى به المطاف إلى أن يشرب من الكأس نفسه، ويذوق صنوف التعذيب نفسها التي ذاقوها.

وتصف الرواية شعوره وهو يقضي أولى لياليه في المعتقل بأنها "قاسية ورهيبة لدرجة أنه فكر في الانتحار بجدية وصدق"، كما تصف حياته بعد ذلك في السجن، إذ "أصبح نومه أرقا، وذكرياته دموعا، وآماله سرابا، وأمجاده السابقة عبثا.. حتى أوشك على الكفر بكل قيمة"، وكأن هذه المقاطع تصف حال ونفسية كثير ممن برزوا في مصر في الأشهر الأخيرة مؤيدين الانقلاب العسكري وانتهى بهم المصير إلى أن انقلبت عليهم السلطة وسجنتهم عندما فكروا في التظاهر ضدها أو التعبير عن رأي مخالف لما تريد.

ليس الأدب بالضرورة انعكاسا مباشرا للواقع أو رواية تأريخية لأحداثه، لكن الأديب ابن بيئته ولا يستطيع أن ينفك عن الواقع الذي لا بدّ أن يترك أثرا -ولو خفيا- على أدبه، والرواية التي بين أيدينا لا "تؤرخ" لفترة من تاريخ مصر فقط، بل تؤكد أن لكل عصر "رجاله وذئابه".

المصدر : الجزيرة