رواية "القانوني" تجليات عصر إمبراطوري

غلاف رواية "القانوني" للتركيأوقاي ترياقي
غلاف رواية "القانوني" للكاتب التركي أوقاي ترياقي أوغلو (الجزيرة)
undefined
هيثم حسين
 
يستلهم التركي أوقاي ترياقي أوغلو في روايته "القانوني" شخصية السلطان العثماني سليمان القانوني (1495 – 1566) الذي تولى عرش السلطنة العثمانية (1520) في وقت تميز بصعود الإمبراطوريات الأوروبية وصراعها المستمر مع الدولة العثمانية التي توسعت بشكل كبير شرقا وغربا.

يصور أوغلو في روايته -التي أصدرتها الدار العربية للعلوم ناشرون وثقافة بترجمة مصطفى حمزة- مقتطفات من حياة السلطان في قصره ومع خاصته ومقربيه، مقدما شخصية السلطان الإنسان، بعيدا عن التهويل في إضفاء صفات المبالغة عليه.

يبرز شغف السلطان العثماني بالشعر وضعفه الإنساني أمام الحب، وبحثه عن الصداقة الحقيقية الصافية من شوائب الانتهازية والمصالح، وهو ما سبب له خيبات ونكسات، خاصة ممن وثق بهم وأحبهم واصطفاهم ليكونوا شركاء حياته والمسهمين بقسطهم في خدمة سلطنته، وكل منهم بحسب قدرته وفي مجاله.

يسرد أوغلو كثيرا من التفاصيل عن العنف الطائفي الذي كان سائدا آنذاك، والذي يبدو كترميز وإحالة إلى الواقع المعيش بطريقة ما، ذلك أن الحدود الشرقية للسلطنة العثمانية لم تكن تعرف التهدئة، وكانت عرضة لتوترات دائمة بين العثمانيين والصفويين.

كان كل طرف يستعين بالطائفيّة سلاحا يشهره في وجه الآخر، ويتقنع به مُخفيا حقيقة المطامع السياسية والأهداف المبيتة. وكيف أنه كان بين الطرفين أناس يضحّون بصدق ولا يعلمون شيئا عن المكائد المحاطة ضدهم، كما يجهلون كونهم وقودا في حرب مستمرة.

يتناول الكاتب الصراعات الخفيّة التي كانت تستعر في الظل على هامش الحروب الكبرى في تلك المرحلة، والتوترات والتمردات المتجددة المصاحبة

صراعات لا تهدأ
يستهل أوغلو روايته بتاريخ 21 نوفمبر/تشرين الثاني 1520، وتكون مدينة إسطنبول مركز انطلاق الأحداث وخاتمتها أيضا. يقسم الرواية إلى 11 فصلا، وينهض بمهمة السرد ثلاثة رواة: سليمان شاه، وإبراهيم البرغالي، وهيمي جلبي، وفي كل فصل راو مختلف، يمنح بذلك الشخصيات التاريخية فرصة التعبير عن نفسها، ينفخ فيها روح العصر ويحملها رسائله، وتدور الحكايات في فلك السلطان الذي يكون مركزها تارة، وفي تماس معها تارة أخرى.

شخصياته الرئيسية هي سليمان شاه الذي اتخذ من مقولة "ما الدنيا إلا خيال" شعارا له، وحرص أشد الحرص على إقامة العدل وسيادة القانون، ومعشوقته "حرم" التي زينت قصره وقلبه بالحب المشوب بالغيرة والمكيدة. ثم "إبراهيم البرغالي"، العبد الذي خبر الدسائس، ووضع نصب عينيه كل أنواع الغدر في طريقه لارتقاء المناصب حتى نجح في تولي منصب الصدر الأعظم. و"هيمي" الجاسوس القوي المحنك الذي اشتهر بصراعه مع عملاء الفاتيكان في شتى أنحاء العالم. 

يعالج الروائي مسائل اجتماعية تصدرت اهتمام السلطان في مرحلة حكمه، وسعيه للالتزام بالقوانين وتطبيقها وعدم إبقائها حبرا على ورق، ومقولته الدائمة إن "السيف وحده لا يقيم العدل"، وأن العدل يحتاج دوما إلى تفان وإخلاص وقناعة ووعي ومسؤولية، فضلا عن القوّة التي تقوم بالسهر على تطبيقه.

تبرز أهمية تمسك الحاكم بالقانون وتطبيقه على مقربيه والتأكيد على عدم تجاوزه، ثم ما كان يتعرض له من مخادعة وتحايل من قبل حاشيته، لا سيما عند إيصال صور مبتورة إليه عن الأوضاع والقضايا التي يهتم بها.

يعرض أوغلو الصراعات الخفية التي كانت تستعر في الظل، وعلى هامش الحروب الكبرى في تلك المرحلة، والتوترات والتمردات المتجددة المصاحبة لها، ويصف مشهد الحصار في أكثر من حادثة، كحصار بلغراد ورودوس وموهاج، والمجازر التي صاحبت كل حصار.

كما يركز على حرب الجواسيس، والشراسة التي كانت تسِم تصرفات أولئك المختارين ليكونوا جواسيس وصفاتهم، وتهيئتهم الأرضية السرية للغزوات والمعارك، ودورهم في بث الإشاعات وتصفية الأعداء، بحيث يبقون مستنفرين دوما في انتظار تكليفهم بأية مهمة مهما بلغت درجة خطورتها، وإتقانهم أدوارهم وتفانيهم في خدمة أسيادهم، لأنهم كانوا ينتقون من بين كثيرين، ويمتازون بدهائهم وقوّتهم.

لا يخلو اشتغال أوغلو في روايته من رغبة جلية في الانتصار لماضي السلطنة العثمانيّة، وخاصة في حرصه على تصدير الجانب الإنساني والمتسامح في شخصية السلطان سليمان القانوني

انتصار للماضي
يحاول أوغلو تقديم تحليل لنفسيات الجواسيس، ويقدم الدولة العثمانية كدولة رائدة في الموقف الدولي آنذاك، وسعيها لزرع عملاء لها في قلب أوروبا، مستغلة الحساسيات والتوترات السائدة بين الفرق المتناحرة، وتضييق الكنيسة وتجريمها الراهب المصلح مارتن لوثر ومحاربته وأتباعه، ثم استغلال نقاط الضعف الاقتصادية بالموازاة مع الخلافات الدينية. ويرسم تفاصيل الخطط الحربية من حفر الأنفاق ومحاصرة القلاع والأعداء، أو سبل الحرب النفسية من بثّ الإشاعات أو شراء للولاءات والذمم.

ولا يخلو اشتغال أوغلو في روايته من رغبة جلية في الانتصار لماضي السلطنة العثمانية، وخاصة في حرصه على تصدير الجانب الإنساني والمتسامح والمحب والباحث عن سيادة القانون في شخصية السلطان سليمان، وكذلك في بعض القوانين المسنونة والمطبقة في الدولة من قبله وسابقيه، كقانون المكاتبة في مسألة الرق، إذ كان قانون الرق في الدولة العثمانية محكوما بمدد زمنية معينة، ولا يكون مفتوحا مطلقا كما كان لدى الآخرين.

لم يخض أوغلو في تصوير الصراع الذي كان محتدما بين الحضارات في ذاك الوقت، ولم يحاول الاكتفاء بتأريخ بعض أعمال وإنجازات السلطان سليمان الذي كان قد لقب بالمعظّم، كما لا يتورط في استدراج المراحل التاريخية ليحكم عليها برؤية العصر الحديث وصراعاته المختلفة، التي تبدو في قسم منها مرتبطة بذاك الإرث، وإن كان قد وقع في المباشرة -في بعض الأحيان- من حيث إبرازه السلطان سابقا لعصره.

يروم أوغلو إلى بثّ الروح في حقبة تاريخية مهمة في تاريخ السلطنة العثمانية والعالم برمته، حيث يعيد رسم ملامح الشرق والغرب والصراع الدائر بينهما، ذاك الذي يعثر دوما على مبررات إبقائه مستعرا، وتراه في الوقت نفسه يستنهض همم المسلمين لتجاوز الخلافات الطائفية والاحتراب الخطير، وإبراز الجانب المشرق من الحضارة، وبخاصّة ذاك الجانب الذي يمثّل القانون روحه وجوهره.

ويوصل رسالة أنه لا شيء يمكن أن يلغي القانون أو يؤجل فكرة البحث عن العدالة والسعي لتطبيقها وعدم إبقائها فكرة نظرية، بل تحويلها إلى قوة رادعة يمكن أن تحقّق الأهداف الإنسانية المتمثلة في المساواة وإقامة توازن بين الحقوق والواجبات، حتى في مراحل الحروب والنزاعات، بحيث يظل سيف العدالة مسلولا ساهرا على تطبيقها في الحرب كما في السلم.

يُذكر أن أوغلو روائي تركي معاصر ولد في مرسين عام 1972، وعاش في إسطنبول، واهتمّ بكتابة الروايات التاريخيّة، وله العديد من المؤلفات، بينها روايته الأولى "دعوة الظلام" التي نال عنها جائزة أفضل رواية في تركيا عام 2002، وصدرت روايته "الظلال" 2004، ثمّ رواية "ليالي ألف عام" 2005، وروايته "حصار 1453(2009) و"مراد الرابع"  2010، وغيرها.

المصدر : الجزيرة