"الاستئصال" للطاهر بن جلون أو كتابة الألم

غلاف رواية الاستئصال للطاهر بنجلون
undefined
إبراهيم الحجري
 
يضع الروائي المغربي الطاهر بنجلون من خلال عمله الروائي الجديد "الاستئصال"، القارئ في قلب تجربة مختلفة من الكتابة السردية، وهي كتابة الألم والإحساس بمحنة المرض، وانتظار الموت الوشيك، بالتوازي مع رحلة مضنية للاستشفاء عبر فضاء المستشفى، وما يصاحبها من عذابات التطبيب.

لم يكن بنجلون سباقا في هذا النوع من الكتابة، فقد سبقه أدباء وفنانون عانوا مرض السرطان نفسه، وكتبوا عنه بحجم المرارة نفسها، مثل العربي باطما (أحد مؤسسي فرقة ناس الغيوان الشهيرة) والروائيين محمد زفزاف محمد خير الدين ومحمد شكري وغيرهم، لكن الخط السردي لصاحب "ليلة القدر" كان مختلفا.

فالرواية الصادرة مطلع هذا العام عن دار غاليمار بباريس تختلف في رصد تجربة الألم بعد التجاوز والنجاة من المحنة، في حين لم يسلم هؤلاء من امتحان السرطان، كما جهة الألم تختلف، ودرجة تحمل الجسد ومقاومته للمرض والخوف والاستسلام تضعف أو تزيد من كاتب إلى آخر. 

ترتبط كتابة الألم بصفة خاصة، بالتجارب المستعصية التي يعيشها بعض الكتاب، صحيا ونفسيا واجتماعيا، فتكون بالتالي أسلوبا مقنعا لمصادرة الشعور المضاعف بالمحنة

كتابة مختلفة
اختاربنجلون في هذا العمر تجريب أسلوب مختلف من الكتابة لم يطرقه من قبل، استجابة لإحساس مغاير بالحياة وتغير الأحوال الصحية، وهي كتابة قلما ينتبه لأهميتها الكتاب والمتلقون على السواء، لأن الإنسان بطبيعته الفطرية يتهرب من كل ما يذكي إحساسه بالألم والفجيعة، وكأنه يؤجلها ويغض الطرف عنها.

وترتبط كتابة الألم بصفة خاصة بالتجارب المستعصية التي يعيشها بعض الكتاب، صحيا ونفسيا واجتماعيا، فتكون بالتالي أسلوبا مقنعا لمصادرة الشعور المضاعف بالمحنة، ومطالبة جماهير القراء بتقاسم هاته التجربة المضنية معه، وأداة للتخفيف من هواجس الخوف والضعف والوحدة التي تتزايد كلما تمكن المرض من الجسد، وتسلل اليأس والقنوط والاستسلام على قواه المناعية.

يفرض هذا النوع من الكتابة التي تستعيد لحظات رهيبة قاستها الذات بشكل من الأشكال، أو قاساها من هو أقرب إليها، بحيث تعيش معه المكابدات والمعاناة ولحظات المقاومة والاستسلام والسقوط والنهوض حتى آخر رمق من الحياة، فتكون تجربة مضاعفة، من حيث كون الذات تعيشها مرتين، مرة تكابدها في الواقع من خلال الإحساس بالألم، ومرة ثانية عند محاولة استعادة هاته التجربة عبر الكتابة، فتصبح المحنة محنتين.

يقول بنجلون في مقدمة الرواية "كتابة عمل عن هذا الموضوع فكرة تفرض نفسها، سيكون كتابا مفيدا للرجال الذين سيخضعون لهذه التجربة (تجربة مرض سرطان البروستات)، ولكن أيضا لمحيطهم، نسائهم، أطفالهم وأصدقائهم، الذين لا يعرفون كيف يتصرفون في هذه الحالة. لكن الوضع كان حساسا، هل كان ينبغي، كما طلب مني صديقي، أن أحكي كل شيء وأصف كل شيء، وأفضح كل شيء… لقد اخترت أن أقول كل شيء".

نجح بنجلون في رسم معالم هذه التجربة المهولة بشكل درامي، تجربة بدأت بمعاناة الكاتب مع المرض، مرورا بلحظة استعادة التجربة سرديا

تسريد الألم
تعني كتابة رواية عن الألم والموت بشكل مستعاد سرديا أن يشيد الطاهر بنجلون عالما متخيلا منسجما تصب كل بنياته ومقوماته في صميم هندسة معمار محكي مؤلم يدعم بعضه كله، ويلحم كل عنصر من عناصره مقام تلقي الألم، بحيث يصير المتلقي شريكا للروائي في الإحساس بألم المرض، ونكسة الجسد، وتربص الموت الرهيب في كل آن.

ولعل هذا الأمر الشاق يعد أشد وطأة على الذات الراوية من عيش تجربة المرض نفسها، لأنها تدعو الراوي-الذات إلى استرجاع سيرة الألم بالتفصيل الدقيق عبر تقنية الفلاش-باك، وتشغيل الحواس بإفراط طمعا في نقل تجربة صادقة للمتلقي، تعبر بحساسية مرهفة عن صراع الإنسان، وهو في أضعف مواقفه، مع مرض السرطان القاتل، طيلة مرحلة تجهض من العمر.

وفي حالة المصاب في رواية الطاهر بنجلون الذي فضل أن يضع حمل أحاسيسه الثقيلة على ظهر بطل يمثله، ويفوض له أمر حكي ما جرى له على سبيل المحكي الغيري، وهي لا تعدو كونها مجرد حيلة سردية لتمويه المتلقي، والواقع أن الرواية تحكي عن سيرة ذاتية وخبرة شخصية للطاهر عاشهما فعليا في السنوات الأخيرة قبل أن يستطيع التغلب على الداء، واستعادة حياته.

يقول بنجلون "يحدث أحيانا أن يعهد للكتاب بحيوات لحكيها في أعمالهم، يقومون حينها بدور كاتب عمومي. هذا ما حدث لي، منذ سنتين، حين طلب مني صديق، خضع لعملية جراحية على البروستات، أن أحكي قصة الاستئصال".

يزداد الأمر سوءا كما يقول الروائي الفائز بجائزة "غونكور"، لأن المرض يهاجم عضوا حساسا من الجسد، وله علاقة بالعضو الذكري والفحولة، بحيث إن المصاب يفقد هويته الجنسية، ويصبح عاجزا أمام الجنس الآخر.

تصور رواية "الاستئصال" أقسى فجائع الإنسان، وهو يواجه مقدمات الموت، وقد نجح بنجلون، في رسم معالم هاته التجربة المهولة بشكل درامي، تجربة بدأت بمعاناة الكاتب مع المرض، مرورا بلحظة استعادة التجربة سرديا، وانتهاء بعملية القراءة التي تعيد صياغة التجربة في سيرورة ثالثة أشد جسامة.

المصدر : الجزيرة