الخصر والوطن.. تراجيديا مغربية بصيغة المؤنث

غلاف الخصر والوطن

إبراهيم الحجري-الدار البيضاء

تحتفي الكاتبة المغربية حنان الدرقاوي في روايتها الجديدة الصادرة عن دار أفريقيا الشرق -على غرار منجزاتها السردية السابقة- بالمرأة ومعاناتها في مجتمع لا يرحم، مجتمع مغلف بالطقوس الغامضة، وملتبس بالمسكوتات القيمية الثابتة التي لا تتحول أبدا بالرغم من تحول البنيات الزمانية والمكانية، وتبدل السياقات الدولية المحيطة، مثلما لو كان مصابا بدعوات ملعونة.

تتشكل الرواية من عشرة فصول تمتد على مساحة 197 صفحة من الحجم المتوسط، وهي وإن كانت تستقل بنفسها، إلا أنها مجرد إيهام بذلك، فوتيرة الحكي متواصلة، لا تكاد تتوقف، جامعة في ثناياها بين السرد الاسترجاعي الذي تدخل من خلاله الشخصيات في عملية استنطاق الذاكرة، والسرد الكرونولوجي الذي تتابع وفقه سيرورة تطور مجريات القصة الأساس التي تنهض على دعائمها معمارية الرواية.

ترصد الرواية بتفصيل شديد الحياة اليومية لأربع فتيات جاور بينهن المكان، فأحدث بينهن ألفة وسكينة، فرحن يتبادلن الأحلام في مدينة تضيق بأهلها، وإن تعددت آفاق انفتاحها.

فهي وإن كانت مدينة كوسموبوليتية تتعايش فيها الثقافات، ويكثر فيها الأجانب من كل الجنسيات، تظل حبيسة أجواء روحانية كابوسية تحاصر السكان المحليين، فتبدو كأنما هي مدينة مفارقة أو معلقة بين السماء والأرض.

تدخل كل من عزيزة أومنا -بطلة الرواية- السمراء القادمة من الجنوب، وعائشة الموظفة المتحررة، وإلهام اليتيمة التي تعيش في كنف جدتها تحت حصار شديد من لدن إخوتها الذكور الشداد الغلاظ، وسميرة التي انقطعت عن دراستها، وراحت تلهث خلف زواج سرابي.

يعتبر ما حل به من قبيل النقمة الإلهية، ورفضا من لدن الضابطة القضائية التي قللت من قيمة فتح مذكرة بحث في شأن حادثة غرق طبيعية جراء انتحار شاب عرف بميولاته الجنسية الغامضة

ثرثرة واقتناص
تظل هذه اللّمة مجتمعة تزجّي الوقت بالثرثرة واقتناص لحظات سعادة في بيت عائشة أو روض عزيزة للأطفال، إلى أن تتطور الأحداث بشكل صادم، حيث تفقد عزيزة أخاها علي الذي لفظه البحر جثة مشوهة بعد أيام من اختفائه في ظروف غامضة، في تزامن مع زواج عائشة بالأجنبي طوبي، بعد زواجين فاشلين.

تعرف لمة الصديقات بعدها زلزالا عنيفا، خاصة بعد دخول رائدتهم عزيزة أومنا الجنوبية الطيبة والمحترمة داخل المدينة في دوامة أشبه بالجنون، حيث قادها الحزن على فقدان أخيها الذي كانت تعزه كثيرا، إلى الظن بأنه مات مقتولا من قبل مجهولين دبروا له مكيدة الغرق، خاصة بعد أن وجدت مع أغراضه في غرفته الشخصية، رسالة تهديد تتهمه بممارسة الشذوذ الجنسي مع السياح الأجانب، والتشبه بالنساء من خلال نوعية لباسه، وتسريحة الشعر التي يختارها.

لكن ظنونها تلاقي استغراب المجتمع الذي كان يشك في سلوكيات علي المشبوهة، ويعتبر ما حل به من قبيل النقمة الإلهية، ورفضا من لدن الضابطة القضائية التي قللت من قيمة فتح مذكرة بحث في شأن حادثة غرق طبيعية جراء انتحار شاب عرف بميولاته الجنسية الغامضة، مما عقّد من الوضعية النفسية للبطلة أومنا التي باتت الضغوط القاسية تجعلها ترى أطفالا موتى يعودون إلى الحياة من قبورهم ليعيشوا معها في البيت.

تهيج كابوسي
وتتطور حالة عزيزة أومنا إلى تهيج كابوسي جراء إحساسها بالذنب إثر تخليها عن ابنها الذي حملت به نتيجة تغرير من عشيقها العربي الذي تخلى عنها، لتصاب بالجنون في ليلة عرس صديقتها سميرة بعد أن التقت السيدة التي آوتها إبان الوضع صدفة، حيث كانت تدير حفلة العرس، مما أعاد بقوة أحاسيس الذنب والآثام التي عذبتها وما عادت تطيق حملها الثقيل، خاصة أنها كانت تعتقد أن ذلك سبب فقدان أخيها.     
 
وإذا كان كابوس الجنون قد أطبق على عزيزة، كنوع من الخلاص من المتاهة المجتمعية التي تريد من الآخر تقبلها دون نقاش، فإن عائشة غادرت الوطن الذي لا يرى فيها أهله سوى خصرها، فيما ولجت سميرة زواجا لاح شؤمه من ليلة عرسه.

ويبدو أن عشيقها السابق الذي يهددها بما لديه من صور، وقبولها الزواج من رجل لا تحبه سيجعلانها تعيش في كابوس أفظع من كابوس عزيزة. أما إلهام فتظل معلقة في مشنقة الإخوة الأنانيين، تتأرجح بين حلم بالهروب، ومتاهة زواج على مقاس أبيسي.

بموازاة النوافذ التي تفتح المكان على عالم متمرد على الواقع في تلك الثمانينات، كانت بؤر تصدع عميق تهز جنبات المدينة، وكانت الأفكار المتطرفة تبرعم في الأذهان إلى جانب نمو طحالب الخرافة والسحر اللذين يجعلان المدينة معلقة في السماء

فضاء المفارقات
ويبدو الفضاء الروائي -الذي اتخذ من مدينة الصويرة المغربية مركزا- بؤرة مفارقة. ففي الوقت الذي عرفت فيه هذه المدينة بطابعها الكوسموبوليتي المنفتح على الآفاق والجنسيات، وملاذا للمقهورين والمتحررين منذ زمن طويل، ها هو يتخذ في النص منحيين متعارضين.

الفضاء الأول هو كونها مدينة مسكونة بالأجنبي المتحرر الذي يأتي بحثا عن جغرافية خصبة لتفريغ المكبوت، وإنعاش الذاكرة، وطرد الهواجس والاستمتاع بموسيقى "كناوة" الروحية التي تداوي الألباب المريضة. وهو منحى شبه عارض في الرواية.

ولا يبرز إلا من خلال استرجاع البطلة عزيزة السبب المباشر في انتقالهم من أزرو إلى الصويرة، وهو رغبة الوالد في الاستشفاء بواسطة الموسيقى الروحية التي تعرف بها هذه المدينة، ويقصدها فنانو أفريقيا الكناويون من أصقاع أفريقيا لتنظيم حفلات خاصة تتوج بمهرجان عالمي كل بداية صيف.

سجن جحيمي
وإذا كانت المدينة قد حقّقت مأرب الوالد الّذي رحل إلى العالم الآخر، فإنها بالنسبة لعزيزة وباقي صديقاتها، ظل المكان سجنا جحيميا، لم يجنين منه سوى الضيق والمعاناة، حيث تظل عيون الناس تحاصرهن، ويظل كلامهم يجلدهن بثقافته التقليدية الذكورية.

وبموازاة النوافذ التي تفتح المكان على عالم متمرد على الواقع في تلك الثمانينات، كانت بؤر تصدع عميق تهز جنبات المدينة، وكانت الأفكار المتطرفة تبرعم في الأذهان إلى جانب نمو طحالب الخرافة والسحر اللذين يجعلان المدينة معلقة في السماء، منذورة لفناء وشيك حسب الأسطورة الشائعة.

يتسلطن المكان في النص، فيضيق الخناق على الشخوص التي تظل ترسم من خلال أحلامها وكوابيسها ومغامراتها وأوهامها، حلولا لا تفضي سوى إلى المتاهة نفسها، الضياع والمصير الغامض في ظل غياب طقس يستجيب للحرية التي تتربص بها الفتيات الأربع للظفر بحياة كريمة، بعيدا عن عتمة سجن بلا جدران.       

المصدر : الجزيرة