"موسم صيد الزنجور".. فانتازيا السرد ومتاهة الإنسان

غلاف رواية "موسم صيد الزنجور" للروائي المغربي إسماعيل غزالي
undefined
إبراهيم الحجري
 
تستلهم رواية "موسم صيد الزنجور" للمغربي إسماعيل غزالي طقوس العيش في جبال الأطلس المغربي كمادة أساسية تدور بشأنها الوقائع الغامضة في بحيرة أسطورية يلتبس فيها الواقع بالخيال، ويتداخل فيها الجمال بالقبح، وتحتدم فيها صراعات الأهواء والرغبات والمآسي.

تجتمع فيها -بمحض الصدفة- كائنات بشرية من كل الجنسيات، بحثا عن أشياء أو أفكار أو مشاريع مستحيلة، سرعان ما تؤوب إلى غيرها بفعل الأقدار الغريبة التي تجلل المكان، ويكون من سوء المصادفات أن تتقاطع أحلام الشخصيات ومطامحها ومخاوفها، بل وتتشابه مصائرها أيضا، وكأن لعنة قدرية استبدت بهذا الفضاء الخرافي الجميل.

شخصيات الرواية عبرت المكان لغايات غامضة ولم تترك سوى صورها المعلقة على جدار الفندق، كل هؤلاء انتهوا إلى مصير موحد غامض، وإن فرق بينهم زمان الحلول في المكان

رحلة الحقيقة
تتأسس قصة الرواية على نزهة خرافية يقوم بها عازف ساكسوفون من أب فرنسي وأم مغربية إلى بحيرة في أعالي الأطلس المغربي بدعوة من صديقة مغربية، ظل طوال حياته مسكونا بغياب حقيقة أمه التي لم يتعرف عليها إلا من خلال معلومات شحيحة تصدر عن والده الذي بقي يؤجل رغبة ابنه في رحلة التعرف على أسرة أمه بالمغرب إلى أن مات دون تحقق ذلك، ومهووسا برواية قرأها في مراهقته لصديقة فرنسية كتبتها ثم انتحرت.

ومع أن غايته من وراء هذا السفر كانت كشف حقيقة أمه، والتلذذ بعالم العزلة في بحيرة مسحورة ومعزولة عن العالم من أجل إنجاز مؤلف موسيقي جديد فإنه بدخوله هذا العالم الغرائبي بجماله وعزلته ووقائعه المخيفة يجد نفسه مقحما في سلسلة مفاجئة من الأحداث والعلاقات المتشابكة، كأن قدرا غريبا أخذه إلى هناك ليلتقي أناسا بمحض الصدفة، يشترك معهم المعاناة والمصير والهلاوس وجنون الافتتان بالمكان.

يجد نفسه محشورا في مغامرة صيد الزنجور الوحشي، والبحث عن أسرار المنطقة التاريخية والاجتماعية والجغرافية والأسطورية، وتقاسم جملة من الأفكار والذكريات والمخاوف مع الشخوص التي التقاها هناك، ودخل معها في علاقات إنسانية وفنية.

ومن سخرية الأقدار أن تكون كل الشخصيات -التي حلت بالمكان- مدفوعة بهوس التنقيب عن أشياء لها وقع خاص في مخيلتها، فإذا كان البطل جاء هنا للبحث عن هوية انتسابه لأم يجهل أصلها ومكانها وقصتها فإن الشخصيات الأخرى قادتها مصائر مختلفة بحثا عن أوهام سرابية.

شخصيات عبرت المكان لغايات غامضة ولم تترك سوى صورها المعلقة على جدار الفندق، كل هؤلاء انتهوا إلى مصير موحد غامض، وإن فرق بينهم زمان الحلول في المكان.

الحكاية التي تجعل النص متلاحما
وطبقاته المتعالقة منسجمة هي مأساة الأسرة الغجرية التي استوطنت البحيرة وقاست العزلة والضياع لتجد نفسها مضطرة إلى المغادرة

مأساة أسرة غجرية
تتشعب حكايات الرواية إلى درجة يصعب على المتلقي تذكر كل التفاصيل، لكن الحكاية التي تجعل النص متلاحما وطبقاته المتعالقة منسجمة هي مأساة الأسرة الغجرية التي استوطنت البحيرة وقاست العزلة والضياع، لتجد نفسها مضطرة إلى المغادرة لسوء الظروف الطبيعية، خاصة بعد وفاة الأم في حادثة ولادة، تاركة رضيعا وطفلا وطفلة. وفي الطريق إلى "أزغار" تتعرض الأسرة لمآسٍ كارثية مصدرها الطبيعة والإنسان والذكورة والتقاليد المتخلفة.

لم تكن الطفلة الغجرية سوى "شامة" أم البطل التي تتالت عليها المآسي، بدءا من ظلم الزمن الذي يتَّمها وهي طفلة، وحمّلها تربية أخيها، ثم تسلط الأب الذي يصادر كافة اختياراتها، وظلم الرجل الذي يرى فيها أداة لتحقيق رغباته.

لم تنفعها سوى حيلة أخيها الطفل الذي أحرق أملاك عريسها العجوز ليلة زفافها، ليتيح لها فرصة الخلاص، لكن القدر يضعها أيضا بين يدي امرأة استغلت براءتها لتبيعها لسيدة ماخور، قبل أن تفر لتحضنها مديرة دار أيتام وترعاها إلى أن أصبحت مربية.

وهنا ستلتقي شابا رأته في البحيرة وظل مهووسا بجمالها من خلال احتفائه بوجهها الطفولي في لوحاته، ويعرض عليها الزواج فترفض متحججة بزواجه من أخرى. وبعد وفاة مديرة دار الأيتام اقتسم الورثة التركة، وغادرت شامة برفقة صديقتها لتحترفا الغناء الذي سيجعلها تلتقي بأخيها ويعرفها على قصة أسرتها التي فارقتها طوال عقدين من الزمن.

يحكي لها كيف توفي الوالد في السجن إثر قتله للمعلم الغاصب، وأصبح أخوها الرضيع معلما شابا في المدرسة التي اغتصبت فيها، وصار الأخ الأكبر عازفا شهيرا. وفي أحد المهرجانات المتوسطية التقت شامة فنانا أجنبيا عشقها فتزوجها وصحبته إلى فرنسا، لكنها توفيت إثر ولادتها الأولى.

تتوازى الكتابة السردية مع الدفق الموسيقي وفق إيقاع هادر، فكل فصل هو بمثابة مقطع موسيقي أو لوحة سيريالية تتماهى فيها الأسطورة والواقع، وتتعانق اللغات، وتتشح سمفونية الحكي بوشاح الفانتازيا

متاهة سردية
يعتمد صاحبة "بستان الغزال المرقط" في محكيه الروائي لغة رقراقة تنزاح عن لغة السرد، لتعانق شعرية مترفة، تتفاوت إيقاعاتها من فصل إلى فصل، ومن مقام إلى مقام. أما الصيغة التي رويت بها الأحداث فهي صيغة حلزونية تلبس رداء التجريب والمغامرة السردية، ومع أن السارد يحكي بضمير المتكلم فهو سارد متعدد بالنظر إلى خصوصية الخطاب الذي وصلتنا وفقه القصة، وبحكم تعدد المخطوطات واليوميات والمحكيات داخل حكاية كبرى تؤطر المجموع، بما يجعل السرد في الرواية متاهيا بامتياز.

يقتحم القارئ دوامة من الخطابات المتعددة التي يوحدها فضاء البحيرة على سبيل التضمين، إذ يعمد السارد المشارك في الأحداث إلى التخلي عن مقاليد السرد للشخوص الأخرى، وكأن كل واحد يحكي قصته التي هي في نهاية المطاف قصة الرواية نفسها مروية بصيغ وقوالب مختلفة، ابتداء برواية المراهقة الفرنسية المنتحرة، مرورا بمخطوط فيرجينا، ومخطوط الفتى العشريني، ومخطوط الصياد الأشقر، وانتهاء بمخطوط المؤلف الموسيقي للعجوز المقعد.

تتوازى الكتابة السردية مع الدفق الموسيقي وفق إيقاع هادر، فكل فصل هو بمثابة مقطع موسيقي أو لوحة سيريالية تتماهى فيها الأسطورة والواقع، وتتعانق اللغات، وتتشح سمفونية الحكي بوشاح الفانتازيا، خاصة حين يعمد الساردون إلى رصد حكايات وأساطير البحيرة، في ارتباط وثيق بتاريخ تحرير الشعب المغربي، ونضاله من أجل الاستقلال.

لقد غطى السرد ما يزيد على قرن من الزمن، حيث يمتد من نهاية القرن التاسع عشر مع بداية تغلغل المستعمر، إلى العصر الحالي مع دخول الهواتف النقالة والإنترنت، معتمدا في ذلك على التداعي والتذكر حينا، وتوصيف معاناة الغجر حينا أخرى، دون أن ننسى المقدرة العالية التي أبداها في الاشتغال على معاجم النباتات والورود والموسيقى والأسماك.

المصدر : الجزيرة