"طائر أزرق" ليوسف فاضل.. وقائع سنوات الرصاص

غلاف كتاب طائر أزرق نادر يحلق معي
undefined
 
يمارس المغربي يوسف فاضل في روايته "طائر أزرق نادر يحلق معي" حفريات في بنى المجتمع المغربي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ويرسم خطوطا بيانية للمتغيرات التي شملت تلك البنى طيلة عقود، ابتداء من السبعينيات ووصولا إلى الألفية الجديدة، وكيف أن التمهيد لدخول العصر الجديد كان بالأدوات القديمة نفسها، وعبر تطوير آليات العنف والقهر.

يوجه فاضل البوصلة في روايته -التي نشرتها دار الآداب البيروتية- إلى عالم ضحايا السجون في المغرب في الفترة التي عرفت بسنوات الرصاص، يتبدى ذلك منذ إهدائه روايته "إلى شهداء معتقلات الإبادة في تازمامارت، وأكدز، وقلعة مكونة، ومولاي الشريف، والكوربيس، والكومبليكس، ودار المقري، الأحياء منهم والأموات".

يعاين واقع السجون، ومدى التهميش والتجاهل والتناسي الذي تعرض له السجناء، وتعاطي النظام مع معارضيه وتنكيله بهم وكأنهم أعباء ينبغي التخلص منها، ناهيك عن التجويع والتعذيب والإذلال الذي لا يتوقّف ولا يهدأ، ثم رضوخه للمطالب الخارجية بالعفو عنهم.

فاضل، الذي فازت روايته "حشيش" بجائزة الأطلس الكبير، يتناول تفاقم حالات التيه والتشريد، انطلاقا من التخمينات والشكوك، بحيث يتم تجريم الآخر وتخوينه لمجرد علاقة قرابة تربطه بأحد المتهمين، وتتوسع دائرة الإدانة والتجريم لتشمل قطاعات واسعة من المجتمع، ويكون ذلك تسميما للمجتمع وتفخيخا مستقبليا لمكوناته التي تدفع إلى البقاء في حال احتراب وتناحر وتفكّك وتفتت.

عالم السجن الكابوسي مخيم جاثم على الصدور والأرواح، حتى أولئك الذين يكونون خارجه فهو يقيدهم بعتمته، ويكبلهم بوجوب التنقيب عن ذويهم، أي أن السجن يظل بطل الرواية الأثير، والكل يدور في فلكه

سجون تفرّخ سجونا
يكون "بار اللقلاق" بؤرة الرواية المكانية، تنطلق منه الحكايات والذكريات نحو الماضي القريب والبعيد. فهو يختصر تطورات الأحداث في البلد برمته، ترتاده مختلف الفئات، يكشفون في عتمته وصخبه عن وجوههم الحقيقية ونواياهم المبيتة بعيدا عن التزييف والمخادعة.

يحكي فاضل روايته على ألسنة عدة رواة، يكون لكل راو حكايته المتسلسلة التي يعاود الرجوع إليها في سياق زمني تال أو سابق. يستهل برواية زينة وبتاريخ 21 مايو/أيار 1992، ليحكي عن الجهد المضني الذي تقوم به زينة للبحث عن زوجها عزيز المفقود منذ قرابة عشرين سنة، والذي فقد إثر ليلة زفافه وضاع أثره.

تتسلسل روايات الشخصيّات والرواة لاحقا فتأتي روايات: "عزيز" و"ختيمة" و"بابا علي" و"بنغازي"، فضلا عن شخصيات أخرى تكمل مشاهد الحياة المصورة، وتراه يمنح صوتا للكائنات الحية الأخرى كحالة "الكلبة هندة" التي تكون لها روايتها الخاصّة المتقاطعة مع الروايات المسرودة والمتذكرة.

لا تهدأ حمى البحث عند زينة المتعلقة بزوجها المغيّب، وهو الذي هدد أركان المملكة وكان واحدا من عناصر محاولة الانقلاب الفاشلة على الملك في بداية السبعينيات من القرن المنصرم. زينة التي تعمل برفقة أختها في "بار اللقلاق"، الذي أورثته عجوز فرنسية لها بعد معاناة، كي تحظى بما يحميها من العوز، ويرجعها عن طريق الاستغلال الجنسي الذي كانت قد أجبرت على الدخول فيه بعد هجرها وأختها بيت والدهما إثر زواجه وموت أمهما.

عزيز الذي يحكي روايته بدوره، يعود إلى جذوره الضبابية ونشأته يتيما، ثم إصراره على إتمام دراسته، ومن ثم الدخول في مدرسة الطيران ليتخرج طيارا يعانق الأجواء ويحلق في الآفاق. كان يشعر أن الطيران يكسبه وجوده الحقيقي ويمنحه سعادة غامرة، يعشق التحليق بشكل غريب، ما إن يبدأ تحليقه حتى يسهو عن العودة إلى الأرض، ولا يلتفت إلى دعوات برج المراقبة له بوجوب الهبوط.

وما إن يحرم من الطيران بأمر من قائده في القاعدة الجوية حتى يجتاحه يأس قاهر يكاد يودي به، لكن قائده الكولونيل يعيده إلى طائرته طالبا منه المشاركة في إرجاع السلطة للشعب والانتصار للمغلوبين والمقهورين، لكن المحاولة الفاشلة تودي بالجميع إلى سجن موحش كئيب.

الجميع سجناء أحلامهم ورغباتهم وماضيهم وتقييد الآخرين لهم. الحياة وسط خراب النفوس سجن متغول. يكون لكل شخصية طائرها الأزرق الذي يحلق معها، وذاك الذي يولّد لديها الأمل بفرج قادم

مصائر مجهولة
عالم السجن الكابوسي مخيم جاثم على الصدور والأرواح، حتى أولئك الذين يكونون خارجه، فهو يقيدهم بعتمته ويكبلهم بوجوب التنقيب عن ذويهم، أي أن السجن يظل بطل الرواية الأثير، والكل يدور في فلكه.

ومع السجن تحضر حالات من القهر الاجتماعي والتخبط السلطوي، وابتزاز الفقراء والمحتاجين والبسطاء، والتعامل من قبل بعض القادة مع المواطنين بمنطق السجن وقيوده الصارمة المنهكة، وتوحش الإنسان وجنونه أمام تلطف الحيوان ومسالمته.

ينسج السجين روايته على منوال زمن مختلف، زمن يستحضر التاريخ الماضي والحاضر المحجوب في عتمة الظلم وجنون السجانين، ثم يمضي لتزجية الوقت بفنون مخترعة.

ويكون الحدث الأكثر تسلية وإمتاعا في تلك العتمة الطاغية اقتحام طائر لتلك الوحشة، ليغدو الأنيس ومصدر البهجة والأمل بالفرج القريب، وهو يبني عشه المفترض، يعيد إليه الأمل بحياة جديدة قادمة، يحلّق معه في ظل المجهول المهيمن.

الجميع سجناء أحلامهم ورغباتهم وماضيهم وتقييد الآخرين لهم. الحياة وسط خراب النفوس سجن متغول. يكون لكل شخصية طائرها الأزرق الذي يحلق معها، وذاك الذي يولّد لديها الأمل بفرج قادم، بحيث يضخ جديدا في رتابة الأيام الكالحة، يتم اختراع الطائر حتى لو كان في أحلك الظروف، ليهب للوجود معنى مفقودا.

يجري الروائي تداخلا بين عوالم عدة، عالم السجن مقابل عالم الحرية المفترضة، عالم البشر وعوالم الكائنات التي تشاركهم العيش على الأرض، وترسم لهم خرائط تحركٍ تتناسب مع طبيعة المنطقة التي يعيشون فيها، حيث العنف جمر متّقد تحت رماد فضاح، يتم التنكيل بالضحايا والتمثيل بالجثث التي تنهش الحيوانات والقوارض لحومها.

بالتوازي مع التنويع في أصوات الرواة، ينوّع الكاتب في لغاتهم أيضا، فلكل واحد لغة تتوافق مع شخصيته وثقافته، مما يدفعه إلى اعتماد اللهجة المغرقة في عاميتها في بعض المقاطع والفصول، كما أنّه يستخدم أحياناً لغة "الشلحة" الموجودة في المغرب، وتراه يترجم المقطع الذي يورده بتلك اللغة، مزيلا الالتباس والغموض، هذا فضلا عن سوية اللغة الرفيعة ودقّتها.

كما يصور الكاتب طقوسا اجتماعية متوارثة، كطقوس الأعراس في عدة مناطق، بحيث يأتي ذلك كنوع من توثيق الذاكرة والمحافظة على الإرث وتجديده عبر التدوين والحكاية.

يبقي الكاتب بعض ألغازه ضبابية ربما من باب التشويق، فجميع الرواة يقاربون الموضوع نفسه، كلّ واحد من زاويته الخاصة، بحيث يلقي عبرهم الأضواء على دائرة الفعل والحدث كلها من مختلف الزوايا.

ولا تنفك خيوط الحبكة تنفلت حتى مع الاختتام بلقاء العاشقين، بعد رحلة بحث مضنية بحيث يتجدد البحث عن ماهية العلاقات وخلفيّتها، وأدوار الشخصيّات في تاريخ بعضها بعضا وفي تاريخ البلد برمته. 

المصدر : الجزيرة