قبل أن يمتلك التشكيلي السوري خضر عبد الكريم مرسما، امتلك حلما جميلا بالحرية وخيالات متوثبة لمناضل وفنان يساري عنيد قادته إلى السجن. وفي سجن صيدنايا صنع أدواته وأقام معرضه الأول الذي كان بداية دخوله عالم الفن، لينحت بعدها تجربته الخاصة ويطور أدواته.
تبقى رواية "القوقعة.. يوميات متلصص" لمصطفى خليفة هي الأكثر صدمة وإيلاما، والأكثر شهرة في سياق "المدونة السجنية" في سوريا، رغم أنها لم تظهر بالعربية إلا بعد سنوات من نشرها بالفرنسية |
سرديات الرعب
وحكايات "مرام" ونساء بريش عن السجن تضاف إلى شهادات وسرديات كثيرة جاءت بأقلام سورية كثيرة، بما في ذلك أقلام نسائية عن ذلك "الدولاب الدموي" كما يسميه الراحل عبد الرحمن منيف في أعماله التي تعد مؤسسة لما يعرف بأدب السجون.
فقبل سنوات كتبت "هبة الدباغ" روايتها "خمس دقائق فحسب.. تسع سنوات في السجون السورية"، كما كتبت الأديبة حسيبة عبد الرحمن أواخر التسعينيات روايتها "الشرنقة" عن تجربتها في سجن "دوما"، وكتبت أيضا "سقط سهوا" و"تجليات الشيخ جدي"، وسجلت روزا ياسين الحسن روايتها التوثيقية "نيغاتيف.. من ذاكرة المعتقلات السياسيات السوريات"، والكاتبة الفلسطينية مي الحافظ "عينك على السفينة" عن تجربة شخصية.
وإذا كانت رواية "يسمعون حسيسها" للأردني أيمن العتوم الصادرة عام 2012 قد لامست بقوة الجرح النازف في الأقبية والمعتقلات على لسان الطبيب السوري "إياد سعد"، في آخر الأعمال التي تفضح "عالم الرعب" ذاك، تبقى رواية "القوقعة.. يوميات متلصص" لمصطفى خليفة هي الأكثر صدمة وإيلاما، والأكثر شهرة في سياق "المدونة السجنية" في سوريا رغم أنها لم تظهر بالعربية إلا بعد سنوات من نشرها بالفرنسية.
لم تكن "القوقعة" هي الأولى في هذا النمط من الكتابة، لكنها ألقت أضواء كاشفة وقوية عن ظلام السجون السورية وعرّت قبح وقساوة الجلاد وعماه في مواجهة الكلمة الحرة، حين كتب خليفة عن سجن تدمر الرهيب، وكيف اعتقل مسيحي بتهمة الانتماء لتنظيم الإخوان المسلمين.
تلك "التجربة التدمرية" المؤلمة والموغلة في التدمير الممنهج للإنسان ذاقها أيضا ياسين الحاج صالح لمدة 16 عاما ودوّنها في روايته "بالخلاص يا شباب"، وسجل صالح أيضا أهوال السجن والتعذيب في سجن حلب المركزي ومعتقل "عدرا".
وكتب الشاعر فرج بيرقدار تغريبته الطويلة (14 عاما) في سجون المخابرات السورية في "خيانات اللغة والصمت"، كما سجّل سليم حماد مذكراته كمعتقل في سجون الأسد في "تدمر.. شاهد ومشهود" وكتب شريف الراس عن سجن تدمر أيضا روايته "الورطة".
" |
رواية الفزع
ويعد القاص إبراهيم صموئيل أول من كتب مقاربة في أدب السجون السورية في مجموعاته القصصية "رائحة الخطو الثقيل" وبعدها "نحنحات" و"الوعر الأزرق". وفي تجربته هذه يلتقط صموئيل تفاصيل الحياة الصغيرة والزوايا الإنسانية التي تدخل إلى عمق الفرد المسكون بالخوف بعيدا عن الشعارات السياسية.
حكايات كثيرة ومفزعة عن السجن والسجان كتبها أيضا نبيل سليمان بشكل مبكر في روايته "السجن"، وهو من أقدم الأعمال في أدب السجون، كما كتب سليمان أيضا "سمر الليالي" و"مجاز العشق". وضمن سلسلة نصوص من وراء الجدران كتب عماد شيحة رواية "موت مشتهى" و"بقايا من زمن بابل" و"غبار الطلح"، وكتب لؤي حسين "الفقد.. حكايات من ذاكرة متخيلة لسجين حقيقي".
وتحمل مدونة "أدب السجون" السورية أعمالا روائية أخرى كثيرة، فقد سجّل السجين الإسلامي البراء السراج تجربته "من تدمر إلى هارفارد.. رحلة سجين عديم الرأي"، وكتب مالك داغستاني "دوار الحرية" وعبد الله الناجي عن "حمامات الدم في سجن تدمر"، ومصطفى طه رضوان "في القاع.. سنتان في سجن تدمر الصحراوي" ، وصدرت أيضا "أصابع الموز" لغسان الجباعي، و"آه يا وطن" لفاضل السباعي و"الرحيل إلى المجهول.. يومياتي في السجون السورية" لآرام كارابيت وغيرها.
عشرات الأعمال قدمها مبدعون سوريون عن تجربة السجن، سرديات كثيرة ربما هي الأكثر عربيا في هذا المجال، وهو ما يؤيد قول الشاعر فرج بيرقدار "سيرشحنا المستقبل كأكبر تراث عالمي في أدب السجون"، وهي كتابات تترك القارئ في النهاية بين خوف وتقزز وأسئلة محرقة كثيرة.
لكن تلك الصرخات والشهادات المؤلمة لم تأت من سجون صيدنايا وتدمر وعدرا فقط، حكايات ألم كثيرة دونت أيضا من سجون تازمامارت (المغرب) والواحات (مصر) وبرج الرومي (تونس) وبوسليم (ليبيا) وغيرها عن حقب قاسية ومروعة، لكن النهايات أوالفضاءات المطلقة كما يقول الروائي أيمن العتوم "تبدأ من الجحور الضيقة.. هناك تصنع الحياة ويعاد ترتيب مكوناتها".