"6000 ميل".. فلسطين الجذور التي لا تنقطع

تصميم غلاف رواية "6000 ميل" للروائي الفلسطينيّ محمّد مهيب جبر
undefined
هيثم حسين
 
من ذاكرة أبيه المسكونة برائحة البرتقال في يافا اقتنص "بيت مارتينيك" اسم فلسطين. الولادة خارج أرض الأجداد، وآلاف الأميال، وعقود ستة من العمر، لم تسقط ذلك "الوطن الحلم" من ذاكرة ولا قلب ذلك الفلسطيني، الكاريبي المولد. يزور فلسطين ليتعرف إلى ذاته ورائحة أرضه وجذوره التي حالت دونها المسافات والأزمنة، وعسف إسرائيلي لم ينقطع.
 
البحث عن الجذور في رواية "6000 ميل" يتصدر اهتمام الروائي الفلسطيني محمد مهيب جبر، إذ يحضر لديه نوع مختلف من الحنين والتحدي، وهو الحنين إلى موطن الآباء وتحدي المحتل بالذاكرة والذكريات، ذلك أن بطله الفلسطيني الأصل -بيت مارتينيك المولود في جزر المارتينيك في الكاريبي- يقرر خوض رحلة البحث عن الذات، وهي القابع ما وراء البحار.

يختار جبر في روايته -الصادرة عن دار الجندي بالقدس 2013- طريقة الأرشفة كوسيلة لمناهضة الصهاينة الذين حاولوا بكل السبل تغيير خارطة فلسطين السكانية والجغرافية، وتزامنت محاولاتهم مع طمس المعالم التاريخية التي تثبت أصالة الفلسطيني في أرضه ووطنه.

بيت مارتينيك -الذي يبلغ من العمر ستين عاما- يترك خلفه زوجته الهاييتيّة وابنيه ويختار العودة إلى يافا لاستكشاف تاريخ أبيه المهجر من أرضه، والنبش في ثنايا التاريخ الذي غض عنه الطرف، والذي يحرص الصهاينة على تدوينه بما يتوافق مع جبروتهم وسطوتهم على الأرض، وفرضه كأمر واقع.

يختزن مارتينيك في ذاكرته الكثير من الحكايات حول منبت أبيه الذي ألقت به المصادفات في تلك المنطقة المنعزلة من العالم، ليعيش في الجزيرة الكاريبيّة حالما بالعودة دوما إلى مسقط رأسه يافا

العودة المؤكدة
تكون رحلة مارتينيك محفوفة بالمخاطر، برغم أنه اعتمد جواز سفر أجنبيا، واختار شهرة أمه الكاريبية كلقب له، وهو يتحدث الفرنسية ولا يتقن غيرها، لا العربية ولا أية لغة أخرى، لأنه ولد هناك، لكنّه ورث عشق بلاده عن أبيه المتوفى.

يشعر مارتينيك بضرورة إكمال رحلة البحث عن الأهل والجذور ليستدل على ذاته، ويترك لابنيه شجرة عائلة مغروسة في أرض فلسطين، وإن كان في الأمر نوع من الحلم العصي على التحقق بعد عقود التشريد والتهجير والنفي، إلا أنه يغامر.

يختزن مارتينيك في ذاكرته الكثير من الحكايات حول منبت أبيه الذي ألقت به المصادفات في تلك المنطقة المنعزلة من العالم، ليعيش في الجزيرة الكاريبية حالما بالعودة دوما إلى مسقط رأسه يافا، وقد أورث ابنه ذاك الحلم الذي ظل يكبر في داخله، لحين الإقدام على الخطوة المغامرة.

بعد سلسلة من التعقيدات والتقييد من قبل السلطات الإسرائيلية في مطار "اللد" الذي تمّ تغيير اسمه إلى مطار "بن غوريون" يفلح مارتينيك في الخروج من حصار المطار، والدخول في معمعة البحث المعقدة. ولم يسهل تعاطف الإسرائيلي "أوري" -الذي تعرف عليه في الطائرة- معه من الأمر شيئا، بل ربما ضاعف التعقيدات، لأنه دخل في صراع خفي على تملك الأرض، واختراع الذكريات التي تشرع له ملكيّتها.

كما أن سعيه الحثيث أرغم "أوري" أيضا على التدبر في ذاته، والتفكير في هويته المستلبة كيهودي مهاجر من المغرب إلى إسرائيل ليستقر فيها ويزعم انتماءه التاريخي إليها.

في الفصول الخمسة عشر للرواية يثير القادم من وراء البحار الكثير من الأسئلة والألغاز في الأماكن التي يمر فيها، تراه يقتفي أثر التاريخ وعبق الذكريات، فيكتشف بحارا من الدم، ومستنقعات من التدمير الممنهج الذي مارسه الصهاينة بالتواطؤ مع قوات الاحتلال البريطاني. كما يؤكد حقيقة أن حق العودة يظل  متجددا وإن كان بعد عقود.

يتعرف ذلك الآتي من وراء البحار البعيدة إلى ذاته في عيون الصبية والأطفال ورائحة الأرض التي تعشّقت ثيابه وروحه

دلالة الأسماء والأرقام
يولي صاحب رواية "90-91" عناية خاصّة للأسماء والأرقام، وهي تنهض لديه بأدوار لا تقل أهمية عن أدوار الشخوص التي يستعين بها أو يقدمها في سياق ارتحال شخصيته وتنقله الدائم. فبيت مارتينيك يختصر في اسمه المركب انتماءين، إذ أن "بيت" يرمز إلى قرية أبيه التي نسي الجزء الثاني منها، في حين أن "مارتينيك" تحل محل الجزء الغائب المنسي، وتكمل الاسم، وبالتالي تكمل الشخصية التي تنتمي إلى موطنين، أحدهما أب والآخر أم.

ومن هنا فإن غنى الشخصية يأتي من تنوعها، ومزجها عبر الحب بين الأصل الفلسطيني والأصل الكاريبي. ويكون لعدم تحديد الجزء الثاني الفلسطيني من الاسم دلالة أخرى، وهي الانفتاح على كل الأماكن والقرى التي يبدأ الجزء الأول منها بـ"بيت"، وهي كثيرة في فلسطين، بحيث أن بطله يظل منتميا إلى أرض فلسطين كلها ومنحدرا من كل الأماكن، وكل من فيها أقرباء وأهل له.

أما الاهتمام بالأرقام والترميز من خلالها، فيحضر في أكثر من جانب، ابتداء من العنوان الذي يشير إلى المسافة الفاصلة بين بداية الرحلة ونهايتها، ثم الرجل الذي يبلغ الستين عاما، وهو يختصر عمر النكبة الفلسطينية، بحسب زمن الرواية التي تبدأ أحداثها سنة 2008.

ثم يكون استعراض مساحات آلاف الكيلومترات التي تلاعبت إسرائيل بهويتها، وغيرت تركيبتها، لتتوافق مع مساعيها في اختلاق هوية جديدة في ظل إلغائها هوية الآخرين. ويكون التذكير بمئات الآلاف ممن يعيشون في مخيّمات معزولة عن العالم، في بقعة تقطّعها مئات الحواجز، طيلة عقود.

كل ما في فلسطين يتعاون ليكشف لبيت مارتينيك الحقائق، يتعرف إلى أصدقاء فلسطينيين يجد فيهم أهلاً وملاذا، يرتاح لمؤازرتهم غير المحدودة له في بحثه. يكتشف ذاته وسط الأرض التي ينحدر منها أبوه وجدّه.

يتعرف ذلك الآتي من وراء البحار البعيدة إلى ذاته في عيون الصبية والأطفال، ورائحة الأرض التي تعشّقت ثيابه وروحه. ومع حلول موعد عودته إلى جزيرته وزوجته وابنيه، يشعر بعظمة اكتشافه وطنه ومدى الصمود الأسطوري لأهله في مواجهة السطوة الحاقدة.

وهو يدرك أهمية ما ورثه عن أبيه وما سيورّثه لابنيه، يشعر براحة ضمير ويوقن أن الوطن بقدر ما هو إرث من الآباء فهو في الواقع استلاف من الأبناء والأحفاد، ولهذا لا خيار للمرء إلا أن يرد الأمانة للخلَف بأفضل ممّا ورثها عن السلَف.

المصدر : الجزيرة