كتابة الحرب روائيا

أظننا موعودين بروايات كثيرة عن هذا الزمن، سيكتبها من نجا من الحرب وما زال يملك خيالا يكتب به رواية
undefined
أمير تاج السر
 
من المواضيع التي شكلت إيحاء كبيرا لكتاب الرواية وأوقدت خيال الكتابة بشكل كبير، موضوع الحرب، وكانت في فترات مختلفة من تاريخ البشرية موضوعا أثيرا، كتب بأدوات مختلفة، ومن زوايا مختلفة، وخرجت منه روايات عظيمة.

أصبحت هذه الروايات فيما بعد، ورغم أنها كتابات أدبية خيالية، ترتكز على واقع الدمار، وتأتي بشخوصها الخاصين لتقحمهم في هذا الواقع مراجع هامة لأهوال ونكبات يمكن استيعابها بسهولة، واستيعاب توابعها أكثر مما لو كانت دونت بأمانة عبر كتابات تاريخية مسجلة بالوثائق.

أي أن ما تدونه الأعمال الأدبية في رأيي ينتشر أكثر، ويبقى في ذهن المتلقي أكثر، وذلك لسبب بسيط، هو أن الكتابة الأدبية ترسم، بجانب الفكرة حتى لو كانت فكرة مأساوية، شيئا من المتعة يقود بكل تأكيد إلى القراءة المكتملة، وبالتالي إلى الاستيعاب الكامل.

فأنت حين تقرأ رواية "الجندي المجهول" للفنلندي فاينو لينا -المنشورة عام ١٩٥٤- والمكتوبة عن حرب الاستنزاف بين روسيا وفنلندا، لا تقرأ بطولات مبالغا فيها، ولا تمجيدا لبلد على حساب بلد، أو شجاعة جندي في مواجهة جندي آخر، وإنما تقرأ الأهوال في كل الأطراف. تقرأ في الرواية الرعب والموت، وتعرف كيف يفكر الجندي البسيط حين يجبر على القتال، وكيف يفكر القائد المنتشي حين يرسل جنديا ليموت.

وأذكر في تاريخنا السوداني أن حاكم أحد الأقاليم البعيدة، لعله إقليم دارفور، طلب من زعيم إحدى القبائل، التي تستوطن الإقليم وتشتغل بالزراعة والرعي ولم يصلها من الصراع ما وصل إلى الإقليم، إرسال رجال قبيلته الأقوياء ليقاتلوا لنصرة الحاكم، فأجابه بأنه ليس لديه أي ضغينة تجاه أحد وبالتالي لن يشارك في الحرب.

الكتابة الأدبية ترسم، بجانب الفكرة حتى لو كانت فكرة مأساوية، شيئا من المتعة يقود بكل تأكيد إلى القراءة المكتملة، وبالتالي إلى الاستيعاب الكامل

هذه فلسفة بسيطة بالتأكيد، ولكنها في النهاية فلسفة كبرى، إذا ما أدخلت في أي صراع أو حرب تقوم لسبب أو لآخر. الذي يحمل السلاح ويقاتل ويموت هو في النهاية شخص بلا ضغينة، ولكن يتبع الأوامر. و"الجندي المجهول" أعطت للجندي فرصته ومنحته العقل ليفكر بعيدا عن الأوامر، وبالتالي كانت من روايات الحرب العظيمة.

من الروايات الأخرى الشهيرة -في هذا المجال بالطبع- رواية ليو تولستوي العظيمة، "الحرب والسلم"، أو الحرب والسلام كما تكتب أحيانا، وهي رواية ملحمية خالدة، كتبت في القرن التاسع عشر أيام غزو بونابرت لروسيا، والمعروف أن تولستوي كتبها مرتين، ربما لعدم اقتناعه بالمسودة الأولى، وربما لمستجدات طرأت بعد ذلك، وحتمت أن تضاف إلى النص.

وقد نشر المخطوط المعدل أولا، وبعد ذلك نشر المخطوط القديم. هنا ثمة أرستقراطية وحوارات بين النبلاء والنبلاء، والبسطاء والنبلاء. ثمة زمن عقيم معتم، ودائما نكهة الحرب وتبعاتها، وبالتالي عمل أدبي آخر أعمق كثيرا وأكثر خلودا من التاريخ المكتوب.

في التسعينيات من القرن الماضي، أصدرت دار المدى ترجمة لرواية "المريض الإنجليزي"، وهي رواية كتبها السريلانكي مايكل أونداتجي باللغة الإنجليزية، وحصل بها على جائزة مان بوكر البريطانية الكبرى، وانتشرت بشدة، لتتحول إلى شبه نشيد شعبي، يذم الحرب ويضفي عليها تبعات عنصرية فجة، ثم لتصبح شريطا سينمائيا اتبع خط الرواية في معظم السيناريو الذي كتب.

فالمريض الهنغاري المحترق كلية، ويطلق عليه المريض الإنجليزي، ويرقد مغلفا بالشاش والقطن ويتلقى مسكنات الألم في فيلا في مكان ما من إيطاليا برفقة ممرضة كندية، هو شخص بلا ذاكرة، أو فلنقل بذاكرة معطوبة، تأتي حينا وتذهب أحيانا، هو أيضا ضحية الحرب، والممرضة ضحية، وحتى صانع الألغام السيخي العاشق للممرضة ضحية أخرى.

لقد حفلت الرواية بخلفيات الحرب العالمية الثانية كلها، ولم تفلت حتى الأطراف التي لا حول لها ولا قوة، والأهم من ذلك هو حياديتها التامة في رصد كل شيء، وأيضا بلا بطولات ممجدة، ولا نصرة طرف على حساب طرف آخر.

انتشرت رواية "المريض الإنجليزي" بشدة لتتحول إلى شبه نشيد شعبي، يذم الحرب ويضفي عليها تبعات عنصرية فجة، ثم لتصبح شريطا سينمائيا اتبع خط الرواية في معظم السيناريو الذي كتب

منحى آخر من مناحي الكتابة عن الحرب تنشطه الرواية، وهو منحى المؤامرة والدسائس، والتجسس، وانتشار تجارة السلاح، وتجارة الخيانة، وظهور العشيقات البائسات، والعشاق الفارين حتى من نيران العشق، والجو الاجتماعي والاقتصادي السائد، وهو ما يرسم لذهن المتلقي خريطة كاملة لزمن لم يعشه، ولم يشارك في إحيائه أو إماتته، وفي ذهني رواية "ليلة لشبونة،" ذلك العمل الفذ للألماني إريك ماريا.

تستوحي "ليلة لشبونة" مادتها السردية من أجواء الحرب العالمية الثانية، لكنها تتعرض بشكل كبير لألمانيا الهتلرية، وللنازية بكل عيوبها المعروفة، حين تتغلب الخيانة على الصدق، ويصبح الصديق عدوا والقريب بعيدا، والتعذيب هو اللغة السائدة لكل صوت يشذ عن الطاعة، وحتى الهروب من الوطن بحثا عن وطن آخر، لن يصلح، وكل أوروبا ملغمة بالفحيح، والسجون مفتوحة، والهويات انطمست إلى حد كبير.

وقد أسرني مشهد ورد في الرواية، هو مشهد البسطاء المتجمعين أمام كاتدرائية في النمسا، يؤدون التحية والولاء لصوت ينبع من مكبر صوت موضوع في ساحة الكاتدرائية، يتحدث عن المجد، ولا يعرف أحد من أولئك المتجمعين ما هو المجد حقيقة. إريك ماريا كاتب ألماني، وعلى الرغم من ذلك، أوقد حقيقة كرهه للنازية وما سببته، وهو كاتب يملك خيالا اعتمد فيه على شيء من الواقع، وبالتالي ليس مؤرخا تجوز محاكته على نص تاريخي.

لو عرجنا على بلادنا العربية، نجد الحرب موجودة أيضا في الأدب العربي، ولعل موضوع حرب البسوس القديم قد أهلك كتابة في الشعر والقصة والدراما التلفزيونية. لكنه في الحقيقة موضوع يستحق، ولطالما كانت حرب البسوس من المواضيع التي تعتبر من العظات الجاهزة لزمن آخر، فيه عشرات المواضيع المشابهة. أيضا خرجنا من حرب يونيو ١٩٦٧، وحرب أكتوبر ١٩٧٣ ضد إسرائيل، بكثير من المواضيع الهامة، للحرب وزمنها.

الآن توجد حروب عربية، وأقول حروبا لأن الأزمات، خاصة في سوريا، خرجت من كونها صراعات إلى حرب، نفس الجو النفسي المسيطر، ونفس الحياة الهشة التي تخترعها الحرب وتلبسها للمواطنين، ونفس الهم والتقشف، وأظننا موعودين بروايات كثيرة عن هذا الزمن سيكتبها من نجا، وما زال يملك خيالا يكتب به رواية.

المصدر : الجزيرة