"شارع اللصوص".. الضياع في زمن الربيع العربي

غلاف رواية"شارع اللصوص" للفرنسي ماتياس إينار
undefined
هيثم حسين
 
يلقي الفرنسي ماتياس إينار في روايته "شارع اللصوص" نظرة فاحصة على المشهد العالمي، الذي تلونه الحرائق المشتعلة في أكثر من بقعة في الشرق والغرب، يخص المنطقة العربية، يعاين واقع الثورات العربية ومآلاتها، يرصد مشاهد التطرف والإرهاب المتفاقمة، ويكشف عن المكائد التي تحاك والألاعيب التي يتمّ توريط الأبرياء فيها لخدمة سياسات بعينها.

"شارع اللصوص" التي حازت جائزة "غونكور-خيار الشرق" عام 2012، نشرتها دار الجمل بترجمة ماري طوق، تكشف الضياع الذي يلف الشباب العربي في بلاده وفي المهاجر، التي يلوذ بها مخمنا أنها فراديس فريدة، يصف مشاهد العبور وفجائع العنف المتواترة، ولقطات حية من وراء ستار الربيع العربي الذي خاله "الأخصر" -بطل الرواية- سبيل الخلاص.

يختار إينار نموذجه الواقعي من مدينة طنجة في المغرب، التي تكون منطلقا في الرواية في اتجاه الشرق والغرب، بطله "الأخضر"، شاب مسلم في العشرين من عمره، ينحدر من بيئة شعبية، يعشق القراءة وبخاصة الروايات البوليسية، يضطر إلى ترك بيت الأسرة وهو في السابعة عشرة من عمره، بعد أن يطرده والده عقب اكتشاف علاقته الآثمة مع قريبته مريم.

بعد ذلك يعيش الأخضر في محطاته وتنقلاته العديدة منبوذا من الجميع، مطارَدا بإثمه ملعونا من أهله ومجتمعه، يعاني في تنقله من مكان إلى آخر، يصارع ليحظى بلقمته وسط أفواج من المتسولين والمشوهين والعاطلين عن العمل.

أناس من مختلف الجنسيات يلتقون في قلب برشلونة في شارع اللصوص، الذي يفترض به أن يكون محطة انتقالية، لكنه يصبح مقبرة جماعية لأولئك الحالمين الواهمين

مضائق خانقة
يفكّك إينار من خلال رحلات بطله، منظومات اجتماعية وسياسية واقتصادية في أكثر من بلد، إذ يكون الأخضر مسباره الذي يستطلع عبره الحراك الدائر والآفاق المتوقّعة، ينطلق من مدينة طنجة التي تشكّل قبلة لكثير من الكتّاب والأدباء، الذين شغفوا بها فسكنوها وأسكنوها كتاباتهم وأعمالهم، ليجوب العالم الفسيح الذي يضيق به وعليه.

يقسّم إينار روايته إلى ثلاثة أقسام: "مضائق"، "البرزخ"، "شارع اللصوص"، كل قسم يعبر عن مرحلة في حياة بطله وعن المنطقة الملتهبة عقب الثورات العربية، والتي أصبحت مستودع بارود متفجّر بتصاعد.

يقف إينار على الغليان الذي مهد للتفجر اللاحق، وكيف أن التفتت طال تركيبة المجتمع وبُناه، بحيث أنه أوجب التغيير ودفعه إلى التثوير، ثم كيف أن هناك طيفا حاول استغلال موجة الغضب والنقمة الشعبية المتراكمة ليندس وسط الناس ويبدأ ما يصفه بالتطهير بحق مَن يخالفونه، معيدا بذلك الناس عشرات القرون إلى وراء في صراع يُراد له أن يظل مستعرا.

يحكي في القسم الأول عن طفولة متوحشة وواقع لا يرحم، وحالة المضائق تكون أبلغ تعبير عن الفواصل بين الطبقات من جهة، والقارات والدول من جهة أخرى، فمضيق جبل طارق يفصل الفتى الأخضر وصديقه بسام عن الحلم الأوروبي المنشود.

في القسم الثاني "البرزخ"، يصور انتقال البطل على متن السفينة "ابن بطوطة" إلى إسبانيا، إذ يعمل ضمن طاقمها، وأثناء ذلك يتعرف إلى عالم البحار وطرق التهريب والاتجار بالبشر، وحالة استرخاص أرواح الفقراء والمهاجرين والتضحية بهم.

ثم يعمل في مخزن لجثث الموتى، يكتشف هناك هول واقع الهجرة غير الشرعية وفظاعة ما يجري. ينتقل بعد ذلك إلى توصيف أحوال المهاجرين المشرّدين في شوارع برشلونة، وتمزّقهم بين الجريمة والعقاب، إذ يجدون أنفسهم معاقبين على جريمتهم في الحلم بحياة عادية، بعيدا عن جنون الحروب ومآسيها.

أناس من مختلف الجنسيات يلتقون في قلب برشلونة في شارع اللصوص، الذي يفترض به أن يكون محطة انتقالية، لكنه يصبح مقبرة جماعية لأولئك الحالمين الواهمين.

يختار إينار نموذجه الواقعي من مدينة طنجة في المغرب، التي تكون منطلقا في الرواية في اتجاه الشرق والغرب

الماضي والحاضر
يوظّف إينار عددا من النصوص الدينية والتاريخية والأدبية ليمارس عبرها إسقاطات واقعيّة معاصرة، فترى بطله دائم الاستشهاد بابن بطوطة والروائي محمد شكري ابنَي طنجة، يتماهى معهما، يتعرف إليهما في عيون الآخرين أيضا، ولاسيما في عيون الأجانب.

 فابن بطوطة الذي قام برحلاته طيلة عقود يظل الأثير إلى قلب الأخضر، يستعيد بعض حكاياته في محاولة لاستقاء العبر منها، وكيف أنه في كل رحلة كان يتفاجأ بالجديد والمختلف، وأثناء عودته عن طريق الشام إلى دياره يصدَم بانتشار الطاعون وإيدائه بالآلاف في كلّ مدينة.

أما التعاطي مع محمّد شكري فيكون مختلفا، يبدأ بالجهل به ثم إدانته، لأنه كتب بتلك الطريقة الفضائحية، وتاليا التماهي معه أيضا على طريقة التماهي مع أبطاله التاريخيّين والملحميّين.

في الختام يشعر الأخضر بترنح الحياة واحتضارها، يكابد بعد الصداقة والانتماء وتبدد الحب وضياع الحياة، يقرر اختيار معسكره والقيام بحركة حقيقية مؤثرة، بينما يشاهد "بسام" الذي ينتوي الإقدام على عمل "إرهابي" في برشلونة، وتنتظر حبيبته "جوديت" في المشفى إجراء عملية جراحية، وقريبته "مريم" في قبرها تستجديه، و"منير" شريكه في سكنه يحلم بتحقيق عدالة مفقودة، والشيخ نور الدين يتاجر بدماء الأبرياء، ويكون أداة ماكرة لتجيير الشباب وتطويعهم للتفجيرات الانتحارية.

أمام تلك اللوحة المفعمة بالتناقضات والتخبطات، وهو الذي اتهم بتسميم رب عمله في مخزن الموتى وسرق نقوده، يستل الأخضر سكين زميله يغمدها في صدر صديقه "بسّام"، يقرر أنه يقدم له خدمة جليلة يمنعه من اقتراف جريمة إرهابيّة قد تودي بحياة كثيرين.

يعترف البطل لاحقا بجريمته، يستعيد حياته السابقة، يروي تفاصيلها في شارع اللصوص، وهو قابع في سجنه يقضي مدة محكوميته الطويلة، ويقول بكثير من المرارة إن "الحياة ليست إلا سلسلة من الاستجابات الخاطئة وسوء الفهم"، وإن "الحياة هي القبر، هي شارع اللصوص، آخر الطريق شمالاً، وعد أجوف، كلمات فارغة".

يغوص إينار في قلب بعض التنظيمات الإسلامية المتشدّدة، ويصف طرق استغلال الشباب وتجييرهم في عمليات تستهدف الأبرياء وتروعهم. كحالة "بسّام" الذي يبدو حائرا متخبطا في مستنقع الفقر والجهل، ويغدو أداة للعنف بيد مَن يستغلون طيبته واندفاعه وقوّته.

يورد الكاتب بعض الحوادث الحقيقية التي تشكل منعطفات في تاريخ شخصياته، كتفجير مقهى "أركانة" في مراكش، الذي أودى بحياة عدد من الأجانب، وكذلك بعض الحوادث المشابهة التي أساءت لصورة المسلمين، جراء تفسيرات مخططيها الخاطئة لروح الإسلام وتعاليمه السمحة.

يعرج على التحركات الاحتجاجية التي شهدتها مدينة برشلونة الإسبانية وغرق أوروبا في مشاكلها الاقتصادية، كما يعرض لأساليب اغتيال الأحلام والثورات في مهدها، وسبل التآمر على الأبرياء وتجريمهم وتأثيمهم بغية إبقائهم مكبّلين منكوبين بما هم فيه.

يُعد ماتياس إينار من أبرز روائيي فرنسا المعاصرين، درس اللغتين العربيّة والفارسيّة، وترجم لكبار الشعراء العرب والفرس، عاش في عدّة مدن في الشرق، يقوم بتدريس اللغة العربيّة في جامعة برشلونة.

له عدّة روايات: "دقّة الطلقة" 2003 فازت بجائزة القرارات الخمسة للفرنكوفونية، "صعود نهر الأورينوك" 2005، "زون" 2008 فازت بجائزة ديسمبر وجائزة أنتر للكتاب 2009 وجائزة قدموس الفرنكوفونية 2008، "حدّثهم عن المعارك والملوك والفيلة" 2010 جائزة غونكور الطلاب 2010.

المصدر : الجزيرة