"الجلسة الأخيرة".. مقاربة بين الثورة والمجتمع بإيران

رواية الإيرانية شادورت دجافان التي صدرت حديثاً في باريس
undefined
أنطوان جوكي-باريس
 
القصة التي تسردها الروائية الإيرانية "شادورت دجافان" في روايتها "الجلسة الأخيرة" وطريقة حبكتها الفريدة، والبصيرة التي تتم فيها معالجة مواضيعها الكثيرة، تجعل منها تحفة نادرة داخل المشهد الأدبي الفارسي الحالي، وتبرراهتمام النقاد الفرنسيين بالرواية التي صدرت حديثا عن دار Fayard الباريسية.

شخصية الرواية الرئيسية "دنيا" هي شابة إيرانية تهرب من بلدها إلى إسطنبول للتخلص من الجنين الذي في بطنها، بعد تعرضها لاغتصاب جماعي في مركز للشرطة في طهران، حيث تم توقيفها بتهمة "سلوك منافي للأخلاق" فقط لجلوسها مع رفيقاتها في إحدى الحدائق العامة للمدينة.

وبعد مرحلة قصيرة من الضياع في العاصمة التركية، تتمكن "دنيا" من استئجار غرفة، ومن العثور على عمل يسمح لها بدفع إيجار غرفتها وتوفير بعض المال، قبل أن تدخل كلية الحقوق لإكمال دراستها.

لكن الطمأنينة التي ستختبرها في إسطنبول وتجعلها تعشق هذه المدينة لن تدوم أكثر من عامَين. فعلى أثر رفع رسوم تسجيل الطلاب الأجانب في الجامعات التركية بشكل تعجيزي، تقبل الشابة مساعدة أحد مواطنيها وتنتقل للاستقرار في باريس، حيث ستوقظ عزلتها وبؤسها جروحا قديمة داخلها، فتقوم بعملية انتحار فاشلة تقودها -مجبرة- إلى عيادة طبيب نفسي.

في عملية سردها تلجأ "دجافان" إلى تقنيات كتابية كثيرة ناجحة، أبرزها صيغة المخاطب خلال جلسات التحليل النفسي، التي تجعلنا نتآلف مع شخصية "دنيا" وتكشف لنا من أقرب مسافة ممكنة هواجسها واكتئابها وألمها،

ضحية مجتمع وثورة
في العيادة تنكشف لنا تدريجيا مأساة "دنيا". فوالدتها رفضت الاعتناء بها بعد ولادتها لأنها كانت ترغب في أن يكون وليدها صبيا، وبالتالي لم تغفر أبدا لابنتها كونها بنتا. وكذلك الأمر بالنسبة إلى والدها المدمن القاسي الذي أهمل وجودها منذ ولادتها، وزرع خوفا كبيرا فيها كانت نتيجته شعورا ثابتا بعدم الأمان ورغبة شديدة في التواري عن الأنظار والهروب من الواقع.

ولو أضفنا على ذلك وعلى اغتصابها اختبارها في سن الثالثة عشرة التعذيب والسجن أسابيع طويلة في زنزانة معتمة تقع تحت الأرض، لمشاركتها في المظاهرات الشعبية التي شهدتها إيران عام ٢٠٠٩، لاكتملت صورة مأساتها لدينا، ولفهمنا عدم قدرتها على الحب، وعلى التواصل الطبيعي مع الآخرين، ورفضها الغفران لوالديها، وغضبها الجارف على نظام الملالي ونضالها ضده في باريس الذي ستدفع ثمنه غاليا في النهاية.

وتأسرنا هذه الرواية بقصة بطلتها أولا التي تستمد دجافان الكثير من تفاصيلها من سيرتها الذاتية، مما يفسر قوة خطابها ووقعه البليغ على نفوس قرائها، كما تأسرنا بالطريقة التي تعتمدها الكاتبة لسردها، والتي تقوم على خلط الأزمنة والأماكن بشكل يعكس ضياع "دنيا"، ويقودنا إلى تنقل ثابت ومدوخ بين جلسات التحليل النفسي التي تخضع لها، وفصول حياتها في طهران وإسطنبول وباريس.

وفي سردها تلجأ دجافان إلى تقنيات كتابية كثيرة ناجحة، أبرزها صيغة المخاطب خلال جلسات التحليل النفسي التي تجعلنا نتآلف مع شخصية "دنيا"، وتكشف لنا من أقرب مسافة ممكنة هواجسها واكتئابها وألمها، وصيغة المجهول التي تسهّل سيرورة سرد قصتها.

 وفي السرد تبدو مهارات دجافان في كتابة اللغة الفرنسية التي تعلمتها على كبر وسمحت لها- تماما كما سمحت لدنيا- بوضع مسافة ضرورية بينها وبين ماضيها المؤلم في إيران، وبالتالي شكلت ملجأ وفضاء لا بد منه لإعادة تشييد نفسها.

تأسرنا هذه الرواية بقصة بطلتها أولا -التي تستمد دجافان-الكثير من تفاصيلها من سيرتها الذاتية، مما يفسّر قوة خطابها ووقعه البليغ على نفوس قرائها

نقد النظام
لكن قيمة الرواية لا تقتصر على جمال قصتها وعناصرها الشكلية فقط، بل تكمن أيضا في المواضيع الكثيرة التي تعالجها وتطرح حولها آراء ثاقبة وفريدة، كالحرية والمنفى وعلم التحليل النفسي، كما تكمن في النقد الذي نستخلصه داخلها للمجتمع الفارسي والشرقي عموما، الذي يعاند تطلعات المرأة وأبسط حقوقها، وفي الهجوم المركز الذي تقوده دجافان ضد "نظام الملالي" من منطلق تحويله الإيرانيين إلى أشخاص قابلين للفساد وبارعين جدا في الكذب.

ففي بداية الرواية، نقرأ: "لا يمكن لشخص سليم العقل أن يتخيل الأكاذيب الذي على كل فرد في هذا البلد التي يبتكرها خلال حياته اليومية. فكل حالة تتطلب أكذوبة وسيناريو ملائمين".

وفي مكان آخر من النص نقرأ: "يشكل الشك جزءا لا يتجزأ من الثقافة الإيرانية، كل علاقة هي مبنية على الخبث والحذر، فالنظام جعل من الوشاية والتجسس ركيزتين أساسيتين لحكمه ودمّر ثقة الناس بعضهم ببعض".

وعلى لسان بطلتها "دنيا" تكتب دجافان عن استبداد الحرس بقولها "في هذا البلد، أنتم تحت رحمة خبثهم أو غيرتهم أو قسوتهم أو عدائيتهم أو مزاجهم. إذ لديهم السلطة في مراقبتكم، في استجوابكم، في تأنيبكم، في معاقبتكم، في سجنكم. يكفي أن لا يعجبهم منظركم، أو أن يعجبهم كثيرا. تكفي كلمة واحدة، نظرة، غطرسة، تعبير، حركة كي تقعوا في ورطة حقيقية. يجب أن تُظهروا لهم خوفكم منهم، تماما كما تخافون الله. وليس لأن ثمة شيئا تلومون أنفسكم عليه، وهذا يتطلب قدرة عالية على التمثيل".

ولا تسلم اللغة الفارسية من نقد دجافان التي تقول:"قادتني هذه اللغة إلى فقدان مفرداتي وكادت أن تقودني إلى الجنون. لم يكن بإمكاني أن أعبّر عن نفسي بها. إذ لا فضاء فيها لروح حرة. ليس لأنها لغة فقيرة، بل لأنه تمت قولبتها وفقا لروح الإيرانيين الضيقة ولثقافتهم البدائية وطريقتهم في مقاربة الحياة والموت. لا بد من ثورة لغوية حقيقية لتحرير الناس من نيرها".

المصدر : الجزيرة