عباد يحيى يفضح "حداثة" رام الله روائياً

غلاف رواية رام الله الشقراء للفلسطيني يحيى عياد
undefined

أنطوان جوكي-باريس
 
في نصه الروائي الجريء "رام الله الشقراء" -الذي لا يتجاوز ١٢٠ صفحة- يرسم الكاتب الفلسطيني الشاب عبّاد يحيى مشهدا دقيقا وساخرا لمدينة رام الله الفلسطينية، تتجلى فيه جميع تناقضاتها على الصعيد الاجتماعي.

ولا تتوقف جرأة يحيى على مضمون الرواية، إذ يقترح علينا شكلا روائيا مثيرا يختصره بجملة تتصدّر نصّه: "يكفي أن تضغط "Print Out" على أرشيف مراسلاتك في فيسبوك لتكون لديك "رواية" ما".

وفعلاً، يتألف النص حصريا من مراسلة متخيّلة على الشبكة المذكورة بين شاب فلسطيني يعمل صحفيا في الميدان الثقافي برام الله -مما يجعله يعيش في قلب تناقضات هذه المدينة- وفتاة فلسطينية حديثة التخرّج من جامعة بيرزيت في مجال الصحة العامة.

أول المواضيع التي يقاربها عبّاد يحيى في هذه الرواية هو الحضور الأجنبي في رام الله الذي يصفه الصحفي الشاب لصديقته بأنه أكثر المراحل انكشافا

كشف الواقع
وسمح هذا الشكل المبتكَر ليحيى بالتحرّر من مهمة الحبكة الروائية التي أتت بسيطة لكنها ذكية، كنتيجة لهذا الخيار. فعلى طول النص، تنحصر أحداث الرواية في تباري شخصيّتيها الرئيسيّتين في كشف واقع رام الله المرير على أكثر من صعيد، وبتبادلهما الطُرف حولها، وفضح مختلف المفارقات الملاحظة فيها. كما مكّن هذا الشكل الروائي صاحبه من خوض مواضيعه بطريقة مباشرة وفعّالة.

وأول ما يقاربه الكاتب في هذه الرواية هو الحضور الأجنبي في رام الله الذي يصفه الصحفي الشاب لصديقته على النحو الآتي: "أشعر أننا نعيش أكثر المراحل انكشافا، ولا ملاذ لنا أمام كل هذا الاستهداف، لا أدري إن كان هنالك مكان في العالم يدخل إليه هذا الكم الهائل من الأجانب ولا تملك السلطة المسؤولة فيه أية معلومات عنهم، كما لا تملك أن تحتج على أي نشاط يمارسونه. السلطة هنا على الفلسطينيين وحدهم".

ولأن "كل ما في هذا البلد يُحاك مع الأجانب"، يفكّر الشاب "في وضع إستراتيجية وطنية للتمييز بين الأخيار والأشرار منهم، ومن ثم لصدّ حملات الغزو الأجنبي الناعم هذه". أما شعار الإستراتيجية العريض فيراه "على طريقة عجائزنا: ما بييجي من الغرب شي يسرّ القلب".

وفعلاً، يرى الشاب أن كل مشاريع الدول المانحة في فلسطين هي محض تدوير أموال، يمرّرها أصحابها في الجنوب لتعود إليهم مع فائض ربح أكيد. أما الموظّفون الأجانب في الشركات ومؤسسات المجتمع المدني وخبراء المشاريع "فوجودهم كالعقود التي يعملون وفقها: مؤقّت لا يتجاوز السنوات الثلاث في الغالب".

وكذلك الأمر بالنسبة إلى الفتيات الأجنبيات اللواتي يأتين إلى فلسطين بحجة "التضامن مع الشعب الفلسطيني" فيرتبطن بعلاقات مع شبّان فلسطينيين، ولكن حين يأتي مبرّر أقوى لرجوعهن إلى بلادهنّ يتوارين عن الأنظار، هذا حين لا تكون مهمّتهنّ التجسّس لصالح إسرائيل.

ومن نتائج الحضور الأجنبي في رام الله، يروي الشاب لصديقته بعض حالات الاستغلال الجنسي في المدينة التي يقف خلفها أجانب، ثم ينتقل إلى "المحاضرات الثقافية التي يُعلن عنها وتُلقى باللغة الإنجليزية فقط، كأن حضور أبناء البلد غير مطلوب" فيها.

وتتناول صديقته في إحدى رسائلها هندام الشبّان والشابات الملتحقين بالمركز الثقافي الفرنسي الذي ينمّ في الظاهر عن "حالة حادّة من المبالاة تتبدّى في السعي الدائم للتفرّد والاعتناء بكل مقوّمات الظهور المغاير عن المحيط".

وفي الرسالة ذاتها، تتوقف الشابة عند ظاهرة "الكرواسون" (croissant) المتفشّية في رام الله، فترى أنها "تصلح مادة للدراسة الاجتماعية في السنوات العشر الأخيرة في الأراضي الفلسطينية، نظرا إلى حضور هذه الضيافة في كل اللقاءات والأمسيات والندوات والمؤتمرات"، قبل أن تذكّر بأن الكرواسون خبزه الفرنجة احتفالاً بهزيمة العثمانيين خلال حصارهم فيينا، وبالتالي "يملك رمزية أنهم يأكلون رمز/هلال أعدائهم".

يسلّط يحيى الضوء عن طريق بطليه على تحوّل المشهد المديني في رام الله وفقدان الذاكرة الناتج عنه

تحولات مدينة
ومن المواضيع الأخرى التي يسلّط يحيى الضوء عليها عن طريق بطليه: تحوّل المشهد المديني في رام الله وفقدان الذاكرة الناتج عنه، كتدمير دور السينما القديمة وإستوديوهات التصوير، واستبدالها بمحال لبيع المكسّرات وبمجمّعات تجارية، وتشييد الفنادق الفخمة التي لا يأخذ أصحابها بعين الاعتبار "مشاعر أبناء النكبة وهم يرون هذه الصروح ترتفع وتكتمل عند تخوم" مخيّماتهم البائسة.

أما المناسبات الثقافية الغزيرة في رام الله فيرى يحيى فيها "محض مناسبات اجتماعية تتلاقى فيها "النخبة" كطقس مستمر"، بينما "تتوسّل الصحافة الثقافية هذه النخبة ولديها قوالب جاهزة تعبّئ فيها التفاصيل حسب الحدث، وتترك بقية الوقت للتملّق والتزلّف لـ"رموز" الثقافة الجدد".

وفي هذا السياق، يشير إلى أن "حصة وزارة الثقافة من ميزانية السلطة الفلسطينية لا تصل أعشارا تُرى بالعين المجرّدة"، ولهذا "لا تنجح أي فعالية ثقافية دون أموال الشركات الخاصة أو البنوك".

ولا يُهمل يحيى الاحتلال الإسرائيلي ونتائجه في روايته. فعلى لسان بطلته يقول: "الجدار (العازل) جعلنا عيّنة مثالية للاختبار محصورة، محدّدة وسهلة الفحص والدراسة، يتم التحكّم بنا عند كل اختبار عبر إدخال عوامل جديدة وتنفيذ سياسات متنوّعة".

ويضيف "حتى السماح لنا بالدخول إلى إسرائيل بأعداد محدّدة ووفق نظام التصاريح يبدو بمثابة اختبار، حين نذهب لساعات لنرى أرض الآباء والأجداد والفردوس المسلوب، ونعود لنتحدّث عن يافا والقدس وإيلات كقطع من أوروبا، عن الشوارع الفسيحة والمرافق النظيفة والعمارات الزجاجية التي تخترق السماء، وشبكة القطارات السريعة ومتاجر الماركات العالمية والرخاء الاقتصادي، ونظافة الشواطئ الذهبية ونعومة الرمل، فنسمح لأنفسنا بإبداء إعجاب -خاطف أول الأمر- لا يلبث أن يغدو التصريح به مقبولاً".

ويختم يحيى روايته باستنتاج مرير ومؤثّر من بطلته يقول إن "رام الله مبتورة وكل ما فيها مبتور، لا تكتمل فيها إلا أوهامنا. […] ولكننا سنظل نحبّها لأننا لم نعرف سواها وربما لن نعرف سواها. ستظل مسرحنا حيث تأتي الدنيا إلينا وينالنا منها فرحٌ عابر أو شهوة زائلة أو حبٌّ مشتهى، بل بداية حب".

المصدر : الجزيرة