محكي الطفولة والأحلام المؤجلة

غلاف بريد الدار البيضاء.
undefined
إبراهيم الحجري- الدار البيضاء
 
بعد مرور أكثر من عقدين من الزمن على احترافه كتابة الرواية والشعر باللغتين العربية والفرنسية، يفتح المغربي نور الدين محقق في روايته الجديدة "بريد الدار البيضاء" خزائن ذاكرته، واضعا تجربته المنسية رهن إشارة الحكي واللَغة، ومتخذا متخيل طفولته مادة طيعة للسرد.
 
وبهذه الحفريات في الذاكرة يكون محقق قد حذا حذو عدد من زملائه الكتاب المغاربة، الذين تشكل التجارب الشخصية ومحكيات الذاكرة والسيرة الذاتية نسبة كبيرة في مواد رواياتهم.

لكن محقق لا يعود إلى الذاكرة إعجابا بماضيه فحسب، بل مشخصا هفواته ومنتقدا السياقات التي تخل بمناخ التربية السوية للناشئة، ومحتفيا باللحظات الجميلة التي توجت مساره الحياتي بالنجاح في الإبداع والدراسة والعمل والحب، خاصة وأن خط السرد في هذه الرواية يصل بين الأزمنة ويرفع الحواجز بينها، فيعدو الماضي جزءا من الحاضر موصولا بالمستقبل في تقاطعات مؤتلفة تجمع بينها ذات المؤلف السارد.

يتوقف الروائي المغربي عند مجموعة من المراجع التي استند إليها في تكوين شخصيته وتجربته في الكتابة

طفولة حلم
يستعيد محقق عبر محكيه الروائي بعض التفاصيل المشرقة من حياته الأولى الحافلة بالمشاكسات والطرائف والغبطة، فيبدأ بتوصيف البيت العائلي وما وفر له من أجواء التربية والتحصيل والحنان، مرورا بفضاء المدرسة والحي والمدينة الكبرى التي جمعت بين دروبها شتات كل القبائل المغربية في العقد الأول بعد رحيل المستعمر الفرنسي، حيث بدأت الأسر البدوية تنزح نحو الحاضرة بحثا عن العمل والظروف الأحسن للعيش.

وقد تميز الراوي/الطفل، وهو يترعرع وسط هذه الأجواء، بالنباهة والذكاء، فالتقط كل التفاصيل المحيطة به وخزنها لتكون وقود تجربة متميزة في الحياة والكتابة، بل استثمرها أيضا بالطريقة الأصلح لتتويج مساره الإبداعي.

وقد توقف السارد عند طفولته منقبا في ذاكرته عن الإشراقات التي جعلت منه أديبا مميزا، فتحدث عن النجاحات الباهرة التي حققها في الدراسة، كما تناول اللحظات الآسرة والمنعطفات الحقيقية في حياته التي قلبت مساره، مشيرا إلى أن "قرية الجماعة" الفضاء الأول الذي شحذ موهبته وذكاءه وزوده بالمقالب والحكايات.

وعن مسقط رأسه يقول "وقرية الجماعة لمن لا يعرفها ليست قرية كما يشير إلى ذلك اسمها، وإنما هي حي شعبي كبير، يقع في مدينة الدار البيضاء -كازبلانكا- لمن لا يعرفها. هذا الحي الشعبي الذي أنجب مجموعة من المبدعين والكتاب والفنانين، بمختلف مشاربهم، كما أنجب في الزمن القديم مجموعة من الفتوات، كان من بينهم المسمى بـ"الغول" نظرا لقوته".

يتوقف الروائي المغربي عند مجموعة من المراجع التي استند إليها في تكوين شخصيته وتجربته في الكتابة، منها "السير الشعبية" التي كانت تجسد في المذياع والمحكيات التي يرويها الفنانون الشعبيون (الحلايقية) في سوق الأربعاء والأفلام السينمائية التي شاهدها بسينما المدنية، وقراءة القصص والحكايات باللغتين العربية والفرنسية، دون أن ينسى عملية التراسل التي شحذت تجربة الكتابة لدى الفتى/الراوي وطوّر مستواه، تدريجيا ليبلغ مرحلة النضج.

وعن ذلك يقول في روايته "مغرمين بالقراءة كنا وبالشغب أيضا. وطفولتنا امتلأت بالصراعات من شتى أنواعها.. وكأن الصبا مماثلا لهذه الطفولة، كما شكلت الفتوة امتدادا لهما معا. مغرمين بالمغامرة كنا، وكان البطل الحقيقي في نظرنا هو الذي يستطيع أن يتحدى المخاطر".

بهذه الحفريات في الذاكرة يكون محقق قد حذا حذو زملائه من الكتاب المغاربة الذين تشكل التجارب الشخصية ومحكيات الذاكرة والسيرة الذاتية نسبة كبيرة في مواد رواياتهم

قصة حب
تتخلل هذه الرواية قصة حب أدبية غريبة الأطوار نمت -عن بعد- وعبر المراسلة الأدبية بين نور الدين محقق وكوثر التابعي، وهما معا يمتهنان الكتابة وكأن الإبداع هو سبب تعارفهما والتقائهما عبر مساحات المجلات والمنابر الأدبية.

وكلاهما اتخذ مكانه كشخصية ضمن أحداث النص الروائي. كانت هذه القصة الغريبة أداة تطوير الأحداث، وعنصر جذب يشد حبال النص ونسيجه، خاصة مع توالي استعراض المتن للرسائل الحقيقية التي طالما تبادلها العاشقان، وبعد مرور زمن طويل على افتراقهما وانقطاع تواصلهما، تعود التكنولوجيا الحديثة لتنفخ الدفء في العلاقة الأدبية من جديد من خلال نشر نصوصهما على موقع أنفاس ودروب وغيرهما.

العاشقان الصغيران صارا مبدعين معروفين، وشقا حياتهما بقوة على المستوى الاجتماعي والأدبي، وعلى الرغم من كون هذه العلاقة واقعية بحكم وجود الاسمين معا في عالم الأدب والنشر، فإنها على مستوى التخييل تظل رمزية، المقصود منها علاقة الارتباط الشديد بين الكاتب وفعل الكتابة.

المصدر : الجزيرة