المنفى أو قناع الرواية الأردنية

يوسف ضمرة - ما يميز الرواية الأردنية الجديدة الحضور الطاغي للمنفى، وهي ظاهرة ما زالت تترسخ حتى يومنا هذا، بصرف النظر عن بعض الأعمال المتفرقة
undefined
يوسف ضمرة
 
يعتبر الكثيرون رواية "أنت منذ اليوم" للكاتب الراحل تيسير سبول، التجربة الروائية الحديثة الأولى في الأردن، مما يعني أن عمر هذه التجربة لا يتجاوز الأربعين سنة.
 
ومنذ بداية السبعينيات انطلقت الرواية الأردنية في بحث محموم عن تجربة جديدة توازي التجربة العربية في حداثتها، وتتمثل ما وصلت إليه الرواية العالمية من آفاق جديدة مفاجئة لم تخطر في بال الروائيين الأردنيين من قبل.
 
وإذا كانت الرواية الأردنية في هذا السياق تتقاطع أحيانا مع بعض التجارب العربية الأخرى، إلا أن ما ميَّز الرواية الأردنية الجديدة هو الحضور الطاغي للمنفى -عربيا كان أم غربيا- وهي ظاهرة ما زالت تترسخ حتى يومنا هذا، بصرف النظر عن بعض الأعمال المتفرقة.
 
ما أخذ يشكل ظاهرة جديدة في الكتابة الروائية الجديدة في الأردن، هو تحويل الذات الكاتبة نفسها إلى موضوع. وهو اعتراف بالعلاقة الحتمية بين السرد الروائي والسيرة الذاتية

وفي البحث في هذه الظاهرة، ذهب أكثر من باحث وناقد إلى القول إن المجتمع الأردني ليس مجتمعا روائيا، بوصف البلد كيانا سياسيا جديدا، بكل ما ينطوي عليه الكيان من علاقات إنتاج، وبنيات ثقافية واجتماعية وسياسية، وبكل ما ينقصه من تاريخية تلازم الإنتاج الروائي بالضرورة، حيث التاريخ مقولة أو (إستراتيجية) سردية، كما يقول بعض النقاد والدارسين في هذا السياق.

 
ولكننا نرى في هذا التفسير تبسيطا أو تسطيحا للظاهرة، حيث تتمكن الرواية من إنتاج تاريخها دائما، بكل ما ينطوي عليه من حوادث ووقائع وأساطير.. أي أن الرواية تتمكن دائما من تشكيل عالمها، انطلاقا من ماض بسيط كما يقول رولان بارت.
 
تحرك في المنفى
إن الملاحظة الجديرة بالاهتمام، هي أن الرواية الأولى لغالبية الروائيين الأردنيين تحركت في المنفى، كما هو الحال عند محمد عيد ومؤنس الرزاز وإلياس فركوح وإبراهيم نصر الله وجمال ناجي وفؤاد القسوس وسميحة خريس ويحيى القيسي وإبراهيم عوض الله وآخرين، في إضافة لتجربة تيسير سبول، التي بدأت في دمشق، قبل أن تنتهي في عمان. ونحن ندرك أن الرواية الأولى للكاتب تشكل أكثر التجارب السردية تقاطعا مع السيرة الذاتية، حيث تهيمن روح الرواية الأسرية على العمل الأول في أغلب الأحوال.
 
والملاحظة الثانية، هي أن معظم هذه المنافي عربية، وهو ما سوف يقودنا إلى سؤال هذه الظاهرة بالضرورة، بعد أن نتوقف قليلا عند المزج بين الرواية والسيرة الذاتية.

ولكن ما ينبغي لنا التوقف عنده أولا هو مفهوم المنفى في هذه المقاربة، حيث لم نستجب للتفسيرات والمقولات التي حددت المنفى بمكان الإقصاء الجبري، أو ربما اعتبرنا المنفى جبريا حتى في الحالات التي لا يبدو فيها ظاهريا كذلك، كالدراسة في الخارج، أو الركون إلى بنية تلبي حلما ثوريا، اجتماعيا كان أم سياسيا. أو البحث عن مصادر العيش الكريم خارج الوطن. فلا يوجد شخص يغادر وطنه للإقامة خارجه إلا للضرورة، حتى لو تمثلت هذه الضرورة في هامش الحرية الشخصي، الذي شكل منذ بدء البشرية سؤالا وجوديا ملحّا.

خوف الإذابة
وفي الأحوال كلها، فإن المنفى لا يفرق بين منفيّ عربي وآخر، سواء كان المنفى عربيا أم غربيا، حيث يظل هاجس المنفيّ دائما هو الخوف من إذابة الهوية، والتي تتضخم في المنفى بوصفها واحدة من ميكانيزمات الدفاع التي تتسابق للتحصين والحماية.

في استطاعة أي قارئ أن يلحظ التداخل بين الكتابة الروائية والسير الذاتية في الرواية الأردنية، حيث يبرز المنفى ويتعين بشكل يوحي بصدق التجربة الموضوعية وصحتها

والكتابة في هذه الحال، هي أيضا شكل من أشكال الحماية والدفاع. وهو ما يعني أن الكاتب المنفي يختار اللغة للإقامة بدلا من المنفى، حيث تشكل اللغة ملاذا حميما بما تتيحه للكاتب من إعادة كتابة الماضي بوصفه بنية تفوق بنية المنفى ثقافيا وحضاريا وجماليا. فالمنزل العادي في الوطن يتحول إلى قصر، مما يعني أنه يشكل معادلا موضوعيا للرحم الأول!

وبعيدا عن (موت المؤلف) أو تعليق وجوده، أو الرجوع إليه، فإن في استطاعة أي قارئ أن يلحظ التداخل بين الكتابة الروائية والسير الذاتية في الرواية الأردنية، حيث يبرز المنفى ويتعين بشكل يوحي بصدق التجربة الموضوعية وصحتها، وهو ملمح من ملامح الشراكة بين الرواية والسيرة عامة.

ولكن المعضلة الحقيقية هنا تكمن في الذاكرة المخاتلة! فإذا كان النسيان مكونا طبيعيا من مكونات الإنسان، فإن هذا النسيان يتخذ له أشكالا أخرى في الكتابة، أهمها العزل والاختيار.. أي النسيان المقصود.

فطالما شكلت الذاكرة أسّ الكتابة الروائية عن المنفى، فإن الروائي لن يتخلى عن التخييل بسهولة، حتى في أقصى حالات الالتزام بالوقائع والأحداث الموضوعية. والمفارقة هنا، هي أن الروائي الذي يعتمد الإيهام بالواقعية مفتاحا يسلمه للقارئ، نجده في رواية المنفى يتعمد الإيهام أيضا، ولكن للتوكيد على أن التخييل يشكل مصدرا رئيسا في هذا السرد.

تحويل الكتابة
أما ما أخذ يشكل ظاهرة جديدة في هذا السياق، وفي خلال الكتابة الروائية الجديدة في الأردن، فهو تحويل الكاتب من (شخص) إلى (شخصية).. أي تحويل الذات الكاتبة نفسها إلى موضوع. وهو اعتراف بالعلاقة الحتمية بين السرد الروائي والسيرة الذاتية.

ولكن السؤال الجديد هو: لماذا أخذ الروائيون في الأردن يعودون إلى رواية المنفى الآن؟ ونحن نطرح السؤال بعد ظهور العديد من الأعمال الروائية مؤخرا، والتي يشكل المنفى ثيمتها الرئيسة، كروايات "باب الحيرة" و"الشندغة" و"تراب الغريب" لكل من يحيى القيسي وقاسم توفيق وهزاع البراري على التوالي. وهنا نعود إلى ظهور المنفى العربي.

يتبدى لنا المنفى في كثير من الروايات الجديدة، مجرد فكرة تتقنع بأسماء الأمكنة والتواريخ، تماما كالعديد من الشخصيات التي تتخلى عن الأنسنة إلى حد كبير، وتتحول بدورها إلى أداة للتعبير عن المقموع حكما في البنية الأصلية

وفي محاولة استنطاق النصوص واستجوابها، فإن الإجابة الأولى تتعين في التجربة الذاتية، بوصف الكتابة الروائية تنطوي على مقدار كبير من كتابة الذات، حتى لو لم يكن الأمر متعلقا بالسيرة الذاتية. لكن الإجابة الثانية تتعلق بما تبوح به السيرة الذاتية، لا من حيث كونها تسجيلا لوقائع موضوعية، بمقدار ما تشكل شهادة شخصية لكاتب يحلم بالقول الحر.

فالمنفى العربي يشكل قناعا للبنية الأصلية، وهو يشبه الوجه الأصلي في الكثير من ملامحه، مما يعني هنا الخلط بين الوجه والقناع.. أي أن الروائي وهو يلعب لعبة الإيهام في خلال الاتكاء على القناع، إنما هو أيضا يؤكد أن هذا القناع زجاجي، مما يعني أن لعبة الإيهام هنا ثنائية الأبعاد! ويدرك الروائيون أن الرقابة الرسمية والاجتماعية والدينية معنية بالملامح الأصلية للوجه، لا بالملامح المرئية خلف زجاج القناع.

وهو ما يمنح الروائي مساحة من الحرية لم تكن متاحة من دون هذا القناع/المنفى! حيث تنفتح الكتابة هنا على هواجس وأحلام مقموعة، كالممارسة الجنسية، والتصريح بالموقف السياسي، والتعبير عن آراء مباشرة في الدين. وهو هامش ما كان له أن ينفتح على وسعه لولا التصريح الكتابي بأن المنفى هو مسرح الوقائع والأفكار والهواجس، وأن كثيرا من الشخوص المتحركة على الخشبة تنتمي لبنية المنفى، أو للماضي البعيد الذي يشكل نافذة أخرى للهروب من سطوة البنية الراهنة.

وهنا لا بد من العودة إلى سؤال المنفى والهوية. فبينما ننتظر من المنفى أن يشكل مناخا عدائيا في السرد الروائي، فإنه يتبدى لنا في كثير من الروايات الجديدة، مجرد فكرة تتقنع بأسماء الأمكنة والتواريخ. تماما كالعديد من الشخصيات التي تتخلى عن الأنسنة إلى حد كبير، وتتحول بدورها إلى أداة للتعبير عن المقموع حكما في البنية الأصلية.

أما حكاية الاغتراب التي نلحظها في المنفى هنا، فهي مجرد تعبير عن اغتراب متعين في المكان الأول، وما كان ليتم التصريح به بهذه العلانية إلا بقناع المنفى.. أي أن المنفى هنا لا يتعين بوصفه آخرَ معاديا، أو بنية مضادة تستهدف الهوية، وإنما يتعين بوصفه مسرحا مشابها، مما يعني أن المنفى هنا مجرد محاكاة للبنية الأولى، وليس مكان اغتراب موضوعي وفكري، كما هو المنفى الحقيقي. فهل هو منفى وهمي إذاً؟ ربما كان كذلك، على الرغم من موضوعية التجربة!
_______________
كاتب وقاص أردني

المصدر : الجزيرة