الحبيب السالمي .. بعيدا عن الفرنكفونية

الروائي التونسي الحبيب السالمي
‪الحبيب السالمي يرى اللغة العربية قادرة على التعبير عن مشكلات العصر‬ (الجزيرة نت)
‪الحبيب السالمي يرى اللغة العربية قادرة على التعبير عن مشكلات العصر‬ (الجزيرة نت)

كمال الرياحي

إن الكتابة المترحلة تجوب الأنحاء واللغات والوجود والتاريخ.. بحثا طوباويّا عن مكان فيما وراء التيه، أو تحت "زيتونة مباركة" "لا شرقيّة ولا غربية"، خلافا لجاك مادلان اختارت الكتابة عند الروائي التونسي حبيب السالمي أن تقيم تحت "زيتونة الكلب"، وتحت الزيتونة تدفّقت مشاعر "عشّاق بيّة" كما تتدفّق الحمم من الجبال الرواسي.
 
يطل علينا السالمي من أعماق الريف التونسي، من على مشارف الصحراء. من قرية العلا بالقيروان، عاش هناك الطفولة كاملة. فقد الوالدين مبكّرا وهو بعد لم يتخط الرابعة عشرة، ورغم ذلك لم تهزمه تجربة الفقد والحزن. وإن اقتحمت مناخات الموت عوالمه الروائية بعد ذلك، فإنها كما يقول لم تحوّلها إلى روايات سوداء.

فالموت حسب رأيه "يعمّق الإحساس بالحياة والرغبة فيها والإقبال عليها" لذلك صفّى حسابه مبكرا معه وأهدى باكورة أعماله الروائية "جبل العنز" إلى أم ميتة.. إلى أب ميّت، رسالة تبدو شخصية وعفوية، لكن يحق لنا الآن وبعد تراكم منتوجه الروائي أن نذهب بهذا الإهداء بعيدا لنقول إنه تأبين لكل أبوية أدبية.

فقد تخلّص السالمي من ثقل الموروث السردي التونسي ليؤسس ذاته ونصّه في فضاء اللقاطة الخلاّقة تجربةً روائية مخصوصة، وروائيا لا يشبه أحدا، تسري نار قلمه في هشيم السرد المكرر مؤسّسة جغرافية سردية خاصة في أرض روائية تونسية ظلّت لسنوات أرضا محروقة لا تنبت شيئا يقرأ خارج نكهتي البشير خريف ومحمود المسعدي.

من بعيد، من باريس يرسل بين الحين والحين إلى الحقل الروائي التونسي مشاتل سردية عالية الجودة مع المحافظة على خصوصية الطعم التونسي، الذي عرفه القراء في حليب "العنزة الروائية الأولى": "جبل العنز". ومثل المشاعر التي تنبت في أرض لا تنبت إلا البطاطا، تنبت القصص التونسية في أرض فرنسا، وتزرع في لبنان وتحصد في كل الدنيا، مترجمة إلى لغات العالم وكثير من التونسيين لا يعلمون.

هكذا هي رحلة الرواية عند الحبيب السالمي، الذي عرف الرواية العربية والأميركية والفرنسية في تونس العاصمة، فأخذته أعمال الطيب صالح ونجيب محفوظ وسهيل إدريس وألبار كامو وأرنست هيمنجواي وجون شتاينباك، الروايات الفرنسية هي التي أسقطته في عشق باريس، لكنه عندما وصل إليها كتب عن باريس الرمادية كما قال لي, باريس الأنفاق الكئيبة والعجائز والفقر، لا باريس طه حسين وسهيل إدريس وتوفيق الحكيم. وفيها تعلّم أن اليومي والمعاش في علاقة حميمة بالمفكّر فيه وبالحياة الفكرية والإبداعية، وكتب "متاهة الرمل" و"حفر دافئة".

‪غلاف رواية
‪غلاف رواية "نساء البساتين" للكاتب الحبيب السالمي‬ (الجزيرة نت)

العربية لغة إبداعية
"أن تكتب باللغة الفرنسية تنجح", هي جملة تضعنا أمام خيار صعب.. إمّا أن تنتمي إلى مركز الميتروبول وتنخرط في الحداثة الكونية وتوابعها، وإما تظلّ كائنا على الهامش لا يحكى عنك إلاّ بكونك فقيها. يقول إدريس خوري "أن تكتب باللغة الفرنسية يعني أنّك رجل الاختلاف ورجل التدمير, بهذه اللغة تستطيع أن تكتب ما تشاء وتنشر ما تشاء، لأنّك متحرّر من عقال البدوي, ولأنّ ذاتك منشطرة.. لأنّ الفرنسية لغة جدّ جريئة, لغة علمانية وغير مقدّسة".

على النقيض من هذا الموقف المبالغ في الانبهار باللغة الفرنسية والسخرية جهلا باللغة العربية، واعتبارها لغة الفقهاء، يجعل السالمي العربية جسره اللغوي الوحيد لعبور نصّه ويقف مدافعا عن العربية بضراوة الكائن العاشق والعارف، وهو الآتي من بلد التيفاشي والنفزاوي والتيجاني، فيجيبني عن سؤال طرحته عليه يوما: "أكتب بالعربية لأنّها لغتي، وخلافا لما يردده الكتاب المغاربيون الفرنكفونيون فإن العربية الفصحى لغة قادرة على التعبير عن هموم عصرنا ومشكلاته, اللغة العربية تطورت تطورا هائلا، واستفادت كثيرا من الدارجة، ويكفي أن نقرأ الرواية العربية التي تكتب اليوم لكي ندرك ذلك".

ومع ذلك ترجمت أعماله إلى لغات العالم من الفرنسية إلى الإنجليزية والألمانية والنرويجية والهولندية. كاتب مهاجر ويرفض لقب منفي، كاتب يعي جيدا أن مقولة كتّاب المهجر قد قضت نحبها بعد انفجار الجغرافيا وانهزام المسافات.

أما عن المنفى فلا يعتبر السالمي نفسه منفيا، فقد اختار الإقامة في باريس، ويعتبر لغة المنفى موضة، ولن يكون مصيرها أكثر من مصير أية موضة، إذ يقول: "لا أعتبر هذا بطولة أو شيئا من هذا القبيل، كما يفعل الكثير من الكتّاب، ولا أحاول أن أستفيد من هذا بأي شكل من الأشكال".

كل مكان بالنسبة للسالمي مرشح ليكون مكانا روائيا، فمدينية الرواية تعني تعقدها في مستوى البناء السردي وتشكيل الشخصيات، لذلك لا يتردد في إشعال أحداث رواياته في قرية تونسية نائية أو تحت زيتونة كل تاريخها أن تحتها دفن كلب "زيتونة الكلب". في روايته "عشاق بية" وفي الوقت الذي يطلق بعض الكتّاب المحلّيين على شخوصهم تسميات غربية من نحو جاك وفرانسوا، وهم لم يغادروا قراهم اعتقادا منهم بأن تلك هي الطريق السالكة للعالمية، يقلد السالمي البطولة -وهو المقيم في باريس الذي ينشر في المشرق- إلى شخوص بأسماء محلية كالبرني وعبد الله ومحفوظ والعكري وخديجة وبيّة وسعاد.

نصوص السالمي ناطقة بالموسيقى والسينما والإنثروبولوجيا والفلسفة وعلم النفس. لكنه مدرك تمام الإدراك أنه لا بد للرواية أن تخلق فلسفتها الخاصة

فعل حرية ومغامرة تحرر
الكتابة عنده مغامرة حقيقية، وفعل حرية مغامرة في التحرر من الحكاية واثباتها في آن، و"مشكلة الرواية العربية كما يراها أنها ظلت سجينة الحكاية وعاجزة عن تجاوزها إلى ما هو أعمق"، ويستشهد بالرواية الغربية وتجربة ميلان كونديرا مثلا، فالرغبة في المغامرة عند السالمي تجعله يقدم على أن تكون رواية مثل "عشاق بية" أبطالها من الشيوخ لتبعث فيهم المرأة المستحيلة والحكاية الحياة.

يكتب السالمي الرواية بحرّية، وعلى الرغم من تحطيمه لتابوهات (محرمات) كثيرة، فإنه يعرف الخيط الفاصل بين اللغة الأيروسية واللغة الداعرة، لذلك لم يسع كما قال لي يوما "إلى إثارة أحاسيس القارئ، كما يفعل البعض عندما يكتب عن الجنس. فالجنس وكذلك الموت في تلافيف الحياة. أكتب عن الجنس والجنس هو الحياة". هذا لم يمنع "حراس النوايا"، بتعبير الروائي الجزائري واسيني الأعرج، من ملاحقة أعماله الروائية بالمصادرة ومنع توزيعها في بعض بلداننا العربية.

بأحداث قليلة جدا يأسرك نص السالمي ويأخذك معه فتتورّط من أول جملة في القراءة لتبقى تلهث لُهاثا لذيذا وراء نص ما ينفك يغدق عليك بلذائذه السردية. تبدو لغته بسيطة جدا، ولكن بساطتها مربكة لأن كل من قلّده سقط في السطحية والمباشرتية. لغة حقن في حروفها تجارب إنسانية كبيرة .ونصه يبدو لأول وهلة بسيطا، لكن وراء بساطته تنام ثقافة موسوعية كبيرة بالفنون والعلوم والنصوص. لأن السالمي يعرف جيدا كيف يذوّب تلك المعارف في النص الروائي ويجعلها في خدمة التخييل، وهذا ما لم يدركه بعض الكتّاب التونسيين وكثير من كتّاب الشرق.

نصوص السالمي ناطقة بالموسيقى والسينما والإنثروبولوجيا والفلسفة وعلم النفس، لكنه مدرك تمام الإدراك أنه لا بد للرواية أن تخلق فلسفتها الخاصة، لا أن تعيد النص الفلسفي كما يفعل روائي كبير من مغربنا العربي. "الروائي ليس غاسل صحون في بيت الفيلسوف"، عبارة قلتها يوما فأزعجته.

يغوص السالمي في أغوار الشخصية والنفس البشرية، ليداعب خلاياها النائمة وتفاصيلها الصغيرة، حتى يرفع نصوصا عظيمة قائمة على هموم صغيرة. ومتى كانت القضايا الكبرى تكفي لتكون النصوص عظيمة؟

صاحب "نساء البساتين" يقدم نموذجا صحّيا للمبدع التونسي، الذي في مقدوره أن يقتحم كل الفضاءات المشرقية والغربية متى اشتغل على نصّه جيّدا وقدّم إبداعا حقيقيا. ولا يحتاج السالمي إلى مؤسسات لترجمته، فالنص الجيد يلاحقه المترجم في كل مكان، وهذا ما يحصل مع السالمي الذي ترجمت أعماله ونشرت في كبرى دور النشر الغربية مثل أكت سيد وغيرها كثير.

وصل الحبيب السالمي للقائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) في مناسبتين، الأولى بروايته "روائح ماري كلير"، والثانية بروايته "نساء البساتين". يبقى السؤال لماذا ظلّت الرواية التونسية باستثناءات قليلة حبيسة الفضاء التونسي ولم تخرج إلى العالم العربي؟ هل هي قضية نشر وتوزيع الكتاب التونسي أم قضية نصوص أم قضية تلق والصراع الأبدي بين المشرق والمغرب والمركز والمحيط؟ موضوع يستحق ملفا خاصا.
______________
كاتب تونسي

المصدر : الجزيرة