"كمال جن" رواية عن أوجاع السوريين

غلاف رواية "كمال جن" للروائية اللبنانية دومنيك إدة
undefined
أنطوان جوكي-باريس
 
من خلال سردها قصة عائلة سورية، تصوّر لنا الروائية اللبنانية دومينيك إدّة ببصيرة نافذة في روايتها "كمال جنّ" الصادرة حديثاً لدى دار نشر "ألبان ميشال" الفرنسية عالما على وشك السقوط، عالم السلطة والفساد والترهيب الذي كبّل مصير الشعب السوري على مدى أربعين عاما، قبل أن تتزعزع أسسه في مارس/آذار ٢٠١١. وتوقّعت إدة في روايتها انهيارا وشيكا للنظام السوري قبل اندلاع الثورة السورية.
 
وكانت إدة قد فرغت من كتابة روايتها في أكتوبر/تشرين الأول ٢٠١٠، لكن توقّعها ما يحصل حاليا في سوريا لم يأت نتيجة حدس مفاجئ بل نتيجة سنين طويلة من التأمّل العميق في وضع منطقتنا العربية، فقدت الروائية من خلالها جميع أوهامها وأملها، كما يتجلى ذلك بقوة في مضمون روايتها ومناخها الأسودين.
‪دومينيك إدة انتهت من كتابة روايتها في أكتوبر/تشرين الأول 2010 قبل اندلاع الثورة السورية‬ دومينيك إدة انتهت من كتابة روايتها في أكتوبر/تشرين الأول 2010 قبل اندلاع الثورة السورية (الجزيرة)
‪دومينيك إدة انتهت من كتابة روايتها في أكتوبر/تشرين الأول 2010 قبل اندلاع الثورة السورية‬ دومينيك إدة انتهت من كتابة روايتها في أكتوبر/تشرين الأول 2010 قبل اندلاع الثورة السورية (الجزيرة)

وطأة  الماضي
ومع أن جميع شخصيات الرواية خرافية، فإن المجتمعات الموصوفة فيها واقعية، كما يسهل التعرّف على الشخصيات الحقيقية التي تسعى إدّة إلى تسليط الضوء عليها. وتسرد الروائية علينا في نصّها الطويل (٤٥٠ صفحة) قصّة رجل سوري في الأربعين من العمر يدعى كمال جنّ ويعيش بيُسر في نيويورك من ممارسة مهنة المحاماة.

ومع أن وضع البطل المادي والاجتماعي يسمح له بتجاوز جذوره وبالتأقلم جيدا في هذه المدينة، فإن حواجز وجروحا كثيرة في عمقه تحول دون ذلك. فوالداه قتلا وهو طفل في مجزرة حماة عام ١٩٨٢ على يد عمّه "سيف الدين" رئيس جهاز الاستخبارات السورية. وفي منزل هذا العم/الجلاد، اضطُرّ كمال إلى العيش مع أخيه الصغير واختبار ما لا يُطاق، قبل أن يغادر وحيدا إلى الولايات المتحدة لإكمال دراسته الجامعية.

ماض ثقيل يستحيل نسيانه لن يلبث أن يلحق به إلى غربته، حين يُضطرّ إلى التعامل مع وكالة المخابرات المركزية الأميركية من أجل إنقاذ أخيه الذي أصبح "مناضلاً أصوليا"، ويحضر لاغتيال الرئيس السوري أثناء زيارة هذا الأخير باريس. ومع أن كمال سيستغل هذه الفرصة للانتقام من عمّه ومحاولة زعزعة النظام السائد في وطنه الأم، فإنه سيكتشف بسرعة أن حسابات الغرب تختلف عن حساباته النبيلة، وأن لعبة المخابرات ليست لعبته، فتتحوّل بصيرته في النهاية إلى أداة لا نفع لها سوى للشخوص مباشرة بوجه الفاجعة.

ولا تسعى إدّة في روايتها إلى منحنا الأمل بقدر ما تسعى إلى كشف الأسباب التي تفسّر انسداد الأفق في شرقنا من خلال الأقدار القاتمة لشخصيات روايتها الكثيرة والغنية بالألوان. وتكمن مهارتها أولا في الطريقة التي تصوّر فيها الأحداث الأكثر خطورة وتعقيدا، كما لو أنها عادية في الظروف والأماكن التي تحصل فيها. ويسمح ذلك للقارئ بالتآلف مع طبيعة الحياة السياسية في شرقنا وبفهم الرابط القوي بين مفهوم السلطة ومفهوم العائلة.

يشدّنا في الرواية أسلوب كتابة إدّة الحاد والجميل وحبكتها المشغولة ببراعة، كما تفتننا قدرتها على إنارة عملية سردها بأفكارٍ وانطباعاتٍ ثاقبة وعميقة حول الطبيعة البشرية عموما
"

تراجيديا القمع
وعلى الرغم من حيوية الظرف السياسي في الرواية، يبقى دافع إدّة الرئيسي هو كشف كيف تُعاش مآسي هذا الواقع في سوريا من داخل حلقات السلطة، وإظهار الندوب التي تخلّفها في القلوب والنفوس. وفي هذا السياق، نعثر داخل نصّها على بعض محرّكات التراجيديا الإغريقية، كالخيانة وقتل الأخ، وعلى بعض خصوصيات الكتابة المسرحية.

فمونولوغات الشخصيات وحواراتها هي التي تحرّك حبكة الأحداث المروية، بينما تمنح درجة التعقيد السيكولوجي لهذه الشخصيات حضورا قويا وملموسا. وإذ تنجح الروائية في وصف دقيق لذلك النموذج من البشر الذي ينتمي إليه الجلادون، تتناول أيضا نموذجا آخر من الناس يصونون طوعا، بأفعالهم ومعتقداتهم وانتماءاتهم العائلية، واقع العنف والاستبداد.

وثمّة أيضا بعدٌ بوليسي في هذا النص الروائي يستحضر المناخ الجاسوسي لروايات جون لو كاري وغراهام غرين بترفه وجغرافيته المحصورة بأسماء عدد من المدن الكبرى، ومكائده ورجاله البارعين في التنصت والابتزاز والتعذيب والقتل، ونسائه اللواتي يستخدمن الجمال والإغراء سلاحا فعّالا.

فعلى طول الرواية، لا يجد القارئ فسحة لالتقاط أنفاسه نظرا إلى عنصر الإثارة المعتمَد فيها وإلى التسلسل السريع لأحداثها التي تدور بين دمشق ونيويورك وبيروت وباريس، وتقف خلفها أجهزة مخابرات غربية وشرقية عديدة لا هدف لها سوى تحقيق مآربها الضيّقة بأي وسيلة، بعيدا عن مصالح الشعوب وأبسط حقوقها.

ومع كل ذلك، تبقى هذه الرواية أدبية بالدرجة الأولى. إذ يشدّنا فيها أيضا أسلوب كتابتها الحاد والجميل وحبكتها المشغولة ببراعة، كما تفتننا قدرة إدّة على إنارة عملية سردها بأفكار وانطباعات ثاقبة وعميقة حول الطبيعة البشرية عموما، وحول الصعوبات التي تواجه أي شخص يقرر رفض الوضع القائم في عالمنا اليوم.

المصدر : الجزيرة