المتنبي وشعره بلغة موليير

كتاب المتنبّي الذي صدر منذ يومَين عن دار نشر "أكت سود"،
undefined

أنطوان جوكي-باريس

عن دار نشر "أكت سود" الباريسية وضمن سلسلة "سندباد"، تمنح الأنطولوجيا الصادرة حديثا عملاق الشعر العربي الكلاسيكي أبا الطيّب المتنبّي كل قيمته باللغة الفرنسية، متضمنة مقتطفات من شعره وسيرته الأدبية، لتكون الأكثر أمانةً لشعر المتنبي، شكلاً ومضموناً، مقارنةً بالترجمات السابقة التي حظي بها هذا الشاعر.

ولعل اختيار باتريك مغربني وهوا هوي فوونغ -اللذين وضعا وترجما الكتاب- عنوان "كتاب السيوف" لهذه الأنطولوجيا ليس اعتباطياً، فالسيف -كما يشيران إليه في المقدمة- يطبع حياة المتنبي من بدايتها وحتى نهايتها. سيفٌ شهره الشاعر منذ خروجه من سن المراهقة للتعارك مع الحُكم القائم آنذاك في بغداد، ثم مع الجيوش البيزنطية إلى جانب صديقه الكبير وحاميه الأمير سيف الدولة، قبل أن يعيده إلى غمده في سن السادسة والأربعين أثناء وضع نفسه في خدمة كافور الإخشيدي بمصر، ليشحذ لاحقا سيف هجائه ضد هذا الأخير، ويعود فيستلّه لمقاتلة مهاجمي قافلته عام ٩٦٥ فيموت والسيف في يده.

لكن هذا السلاح، الذي تسلّط على حياة المتنبّي وشعره، هو قبل أي شيء داخلي، في نظر مغربني وفوونغ. إذ لا تشكّل نقاوة النصل وصلابته ومهارة استخدامه في المعركة سوى الآثار المادية لقيَم روحية، فالشجاعة والإقدام في المعركة هما مسألتان أوّليتان لدى الشاعر.

والمقصود بكلمة "معركة" هو الهجمات المتواصلة للظروف على الإنسان، حيث يتجاوز السيف مع المتنبّي وظيفته كسلاحٍ حربي ليصبح صورةً ملموسة للنفْس البطولية، فيقول في معرض مدح صديقه الأمير "إنما هيبة المؤمَّل سيف الـ / دولة الملكِ في القلوب حسامُ"، كما يقول في قصيدةٍ أخرى حول الأمير نفسه "يُسْمى الحُسامَ وليست من مشابهةٍ \ وكيف يشتبه المخدومُ والخَدَمُ".

لا مبالغة في تصريح المتنبي بتفوّقه داخل قصائده، فالتقليد الشعري العربي كرّس تدريجياً كامل أعماله الشعرية، كما لم يفلت أي شاعرٍ عربي بعده من تأثيره

سلاح مجازي
علاوة على ذلك، تُشكّل القصيدة المنجَزة السلاح الأقوى وليس مجرّد سلاح مجازي يحلّ بخجلٍ مكان وهج السلاح الحقيقي في أرض المعركة. فالأبيات المشحوذة على يد شاعرٍ ماهر هي أمضى من أي سيف وتُسجّل أكثر الانتصارات سطوعاً. وبالنسبة للمتنبّي، ثمّة شاعرٌ واحد قادرٌ على تحقيق مثل هذا الإنجاز، وبالتالي يستحق كل المديح هو المتنبي نفسه. فحتى حين يقوم بمدح أحد الحُكّام الأقوياء، يُسمعنا صوته الفريد تفوّقه في كل بيتٍ شعري.

ولا مبالغة في تصريح المتنبّي، بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، بتفوّقه داخل قصائده. فالتقليد الشعري العربي كرّس تدريجياً كامل أعماله الشعرية، كما لم يفلت أي شاعرٍ عربي بعده من تأثيره. وخلال أكثر من عشرة قرون، تم تدريس ديوانه ومناقشته وتقليده بحماسٍ لا يقارن، وذلك من المغرب وحتى الهند. أما نبوغه فيكمن، وفقاً لمغربني وفوونغ، في تكريس شعره الكلاسيكية الشعرية العربية، وفي الوقت ذاته في رفضه بقوة الوضع المتحجّر للعمل الشعري الكلاسيكي.

وفعلاً، لا نعثر إطلاقاً في قصائد المتنبّي على إطراءٍ أكاديمي باهت أو على مديحٍ متلفٍّف في طيّات رسمية. فبفضل سخرية غير ملموسة تُعلّق المعنى، عبر لَيٍّ ممارس على الكلمة المتوقّعة، يتلاعب الشاعر بالصور الكلاسيكية التقليدية ولكن أيضاً بموضوعات القصيدة العربية بهدف إظهار علاقته بالعالم وبالحكّام الذين يحتفي بهم.

وعلى عملية الإظهار هذه، نجده يضيف عناصر ملحمية وسردية، كحِكم وإيعازات أخلاقية موجّهة إلى نُصراء الشعر، ومواقف محسومة من الحالة السياسية، وشتائم موجّهة إلى الخصوم، وسردٍ لمعارك أو لرحلاتٍ قام بها. وبذلك يرسم بديوانه على خلفية مدائحه شكلاً ملحمياً فريداً تتجلّى فيه مآثره وأبرز مراحل سيرته الذاتية.

قيمة الكتاب تكمن خصوصاً في الطريقة المتّبعة لنقل القصائد المختارة إلى الفرنسية. فلأن هذه الأخيرة تخضع لنظام عَروضي دقيق، لجأ المترجمان إلى معادلٍ عَروضي له باللغة الفرنسية

ترجمة إبداعية
ولا يتوقف تقديم مغربني وفوونغ للمتنبّي عند هذا الحد، بل يشمل لمحة سريعة عن حياته ووقفة عند خصوصيات النسيب والرحيل والمديح في قصيدته. لكن قيمة عملهما تكمن خصوصاً في الطريقة المتّبعة لنقل القصائد المختارة إلى الفرنسية. فلأن هذه الأخيرة تخضع لنظام عَروضي دقيق، لجأ المترجمان إلى معادلٍ عَروضي له باللغة الفرنسية.

وفي هذا السياق، استخدما البحر الإسكندري الكلاسيكي أو البيت المؤلّف من أربعة عشر مقطعا لترجمة القصائد الكبرى، كما استخدما البيت المؤلّف من أحد عشر مقطعا أو تسعة مقاطع في القصائد التي لجأ المتنبّي فيها إلى بحورٍ أقصر.

وكذلك الأمر بالنسبة إلى القافية التي حاول المترجمان المحافظة عليها ولكن ليس بأي ثمن، كما سعيا إلى نقل النشوة الإيقاعية التي ترتكز في قصائد المتنبّي على استخدام مكثّف للسجع والتجنيس، بدون إهمال الجهد الشكلي المذهل في هذه القصائد الذي يوقظ لدى المستمع إليها شعوراً بالإثارة والحماس يستنهض إرادته وينتزعه من ثقل العالم.

المصدر : الجزيرة