الانتفاضات الشعبية والنيوليبرالية

مقال للكاتب يوسف - بالرغم من غزو العراق واحتلاله، إلا أن ثقافة المقاومة ظلت قائمة وفاعلة وكان لا بد من إلحاق العديد من دول المنطقة بالسياسة النيولبيرالية.

يوسف ضمرة

تقف الثقافة على رأس قائمة المؤثرات الأساسية في التغيرات الاجتماعية في أي زمان ومكان، ولا يستطيع أحد أن ينكر ما أحدثته العولمة الثقافية من تغيير في التراتبية الثقافية في المجتمعات، ومن تدمير للثقافات الاجتماعية المتجانسة، مما سهل اختراقها وتفتيتها، بحيث صار يمكن الحديث الآن عن ثقافات لا في البنية الاجتماعية الواحدة، وإنما أيضا في المؤسسات الاجتماعية الصغيرة كالأسرة والجامعة والأحزاب غير الدينية.

وربما يمكن القول إن إضعاف التدخل الحكومي في الإستراتيجيات العامة ساهم إلى حد كبير في تغلغل العولمة الثقافية، التي تعتبر القناع المضلل لسياسات الليبرالية الجديدة.

والليبرالية الجديدة هي التي أعادت الاعتبار إلى تلك التي نشأت في القرن الثامن عشر، وأخذت في التمدد والهيمنة حتى بدايات القرن العشرين، عندما ساد الكساد الكبير، وانتصرت الاشتراكية وعُممت كإستراتيجية اقتصادية وثقافية في بعض بلدان أوروبا.

وقد لوحظ آنذاك أن هذه الدول التي كانت تولي القطاع العام اهتمامها الأول والرئيسي نجت من الكساد الكبير في العام 1929، الذي أدى لاحقا إلى نشوب الحرب الكونية الثانية.

نلاحظ في هيمنة الليبرالية، سواء الكلاسيكية أو الجديدة، أن هنالك دائما ثقافات تنشأ وتتحرك تبعا للاختلالات الاقتصادية التي تحدث بين فئات المجتمع الواحد

ثقافات متعددة
هذا الوضع هو الذي دعا بعض الليبراليين إلى إعادة النظر في الليبرالية، ودعوا في كتاباتهم ونقدهم إلى ضرورة العودة إلى القطاع العام، لأن الوضع السابق تسبب في خلق ثنائية غريبة تجمع بين التضخم والبطالة.

وكان اللورد البريطاني والاقتصادي جون مينارد كينز هو أهم من قام بمراجعات نقدية لليبرالية في الغرب، وأصدر كتابه الشهير "النظرية العامة" سنة 1936. واعتبر كينز أن على الليبرالية أن تكف عن التعاطي مع المجتمع بوصفه مجموعة أفراد لهم مطلق الحرية في الفعل والإنتاج وتسيير الأمور، ولا بد من تدخل الدولة لتحمي القطاعات الأخرى التي لا تملك، ولا بد من إعادة النظر في المقولة الشائعة آنذاك "دعه يعمل دعه يمر".

وتبين أن هذه السياسات الاقتصادية لا تفتح الباب أمام الأفراد كلهم بالمقدار نفسه، الأمر الذي وسع الهوة بين الأغنياء والفقراء وخلق ثقافات متعددة في المجتمع الواحد، كانت كفيلة بإشعال نزاعات مجتمعية.

وقد أخذ الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت بهذه التوجيهات، وتم النهوض بالاقتصاد الأميركي والأوروبي، إلى أن حدثت حرب أكتوبر/تشرين الأول في العام 1973 وتوقفت إمدادات النفط العربي إلى الغرب.

ونلاحظ في هيمنة الليبرالية، سواء الكلاسيكية أو الجديدة، أن هنالك دائما ثقافات تنشأ وتتحرك تبعا للاختلالات الاقتصادية التي تحدث بين فئات المجتمع الواحد. ولعلنا لاحظنا مؤخرا كيف نشأت ثقافة الضواحي في باريس، حيث المهمشون والمهاجرون والعمال الذين ازداد الاعتداء على حقوقهم التي تم اكتسابها عبر ما يزيد عن مائة سنة.

لقد تميزت ثقافة الضواحي وعمالها الواقعون في فخ البطالة والفقر وفقدان الرعاية الصحية، بمخزون لا بأس به من عدم الاندماج في المجتمع الفرنسي.

والحقيقة هي أن عدم الاندماج يشكل رغبة الطرف الليبرالي في المقام الرئيسي، الذي يتعامل مع هذه الضواحي بوصفها خزان أيد عاملة رخيصا، قادرا على أن يغرف منه ما يشاء ومتى شاء، من دون أن يكون ملزما بتقديم ضمانات مجتمعية من أي نوع، سواء كان في التعليم أو الصحة أو مستوى المعيشة المتدني، بتدني الأجور وقطعها أحيانا أخرى، وفقدان فرص العمل، وفق مصلحة الطرف الليبرالي الذي لا يبالي بالآخر.

لقد تمكنت النيوليبرالية من شق المجتمعات غير المحصنة من خلال منظمات التمويل الأجنبي، التي فرضت على شرائح اجتماعية واسعة تفكيك الخطاب الوطني الواحد، وتحويله إلى خطابات متباينة

شق المجتمعات
لقد تمت إعادة الاعتبار إلى الليبرالية منذ أواسط السبعينيات، ولكنها لم تتوحش إلى هذا الحد إلا بعد الثورة التكنولوجية الجديدة، التي كانت سببا في قيام ظاهرتين، الأولى: سرعة حركة رأس المال والاتصال، مما سهل فتح أسواق جديدة، وتغول الشركات العابرة للقارات. والثانية، سرعة تغلغل الثقافات المغايرة لثقافة المجتمعات الأصلية، مما أدى إلى توسيع الهوة بين شرائح وطبقات المجتمع الواحد.

ولعل انهيار الاتحاد السوفياتي جعل النيوليبرالية تزداد جشعا وتوسعا، فكان تحرير التجارة العالمية، الذي يعني فتح الطريق أمام الشركات للتغلغل أكثر في ما وراء البحار.

وقد أدى تدخل صندوق النقد الدولي في تسهيل عمل هذه الشركات، من حيث فرضه القيود على سياسات البلدان الفقيرة، التي أصبحت مضطرة للتخلي عن القطاع العام وبيعه وخصخصته، والتحكم في أسعار المنتجات الغذائية والعلاجية، طالما لا توجد دولة قادرة على ضبط السوق، أو دعم السلع الأساسية، استجابة لشروط صندوق النقد الدولي.

لقد تمكنت النيوليبرالية من شق المجتمعات غير المحصنة من خلال منظمات التمويل الأجنبي، التي فرضت على شرائح اجتماعية واسعة تفكيك الخطاب الوطني الواحد، وتحويله إلى خطابات متباينة، وحولت اهتمامات المواطن نحو قضايا ثانوية بدلا من التركيز على القضايا الجوهرية.

في ظل هذه المناخات نشأت الانتفاضات الشعبية العربية ضد أنظمة الحكم القائمة، وهي أنظمة ليست جديدة على دول الغرب أو طارئة، فلطالما وقف الغرب داعما ومساندا لهذه الأنظمة من قبل.

سوف يتم الإعلاء من هويات ثانوية بالطبع كالطائفية والمذهبية، وسوف تصير المقاومة عبئا أو عائقا أمام حقوق المواطن العربي، لأن هذا هو خطاب الليبراليين الجدد

انتفاضات انتقائية
ظل الشرق الأوسط مصدر إزعاج للنيوليبرالية، فقد تمكنت بلدان مثل العراق وسوريا من الحفاظ على دور الدولة في دعم الاحتياجات الأساسية للمواطن، الأمر الذي مكّن هذا المواطن من استمرارية تماسك خطابه القومي، وعدم فقدانه البوصلة الحقيقية التي تشير إلى العدو الصهيوني بوصفه أحد أهم أسباب الخلل السياسي في هذه المنطقة.

وقد ظل هذا التماسك قائما على الرغم من الدور الذي لعبته الثقافة الغربية بما تملكه من وسائط إعلامية وإغراءات، في شراء العديد من الأصوات الثقافية العربية التي أخذت على عاتقها التنظير لليبرالية، وهو ما أدى إلى نشوء شريحة الليبراليين العرب الجدد.

ورغم غزو العراق واحتلاله، فإن ثقافة المقاومة ظلت قائمة وفاعلة وكان لا بد من إلحاق العديد من دول المنطقة بالسياسة النيولبيرالية، من خلال استبدال هذه الأنظمة القائمة، التي لم تنجح ثقافة الليبراليين العرب الجدد في تفكيك خطابها وتوجهاتها ومواقفها.

تم اللجوء إلى حقوق المواطن العربي المهدورة منذ الاستقلال الشكلي لغالبية الدول العربية، وهي حقوق كان الغرب ولا يزال حتى يومنا هذا يغض الطرف عنها، بل ويشجع حكومات كثيرة على البطش بها. وحتى في هذه الانتفاضات، فقد كانت انتفاضات انتقائية، حتى في مواقف المثقفين العرب منها.

وكما قال عزمي بشارة "هنالك من يريد ثورة في دول الاعتدال ولا يريدها في دول الممانعة"، وفي هذا القول يصح النقيض تماما، وهو ما لم ينتبه إليه المفكر العربي عزمي بشارة، معتمدا في ذلك على قدرة الشاشة على إلغاء دور العقل أو تقليصه على الأقل.

سوف يتم الإعلاء من هويات ثانوية بالطبع كالطائفية والمذهبية، وسوف تصير المقاومة عبئا أو عائقا أمام حقوق المواطن العربي، لأن هذا هو خطاب الليبراليين الجدد، وهو ما نقرأه وما نسمعه كل يوم، ويزداد انتشارا وترسخا في العقل العربي. فماذا ننتظر بعد هذا كله؟

المصدر : الجزيرة