الرسامون الأوروبيون وفتنة الشرق

جان ليوم جيروم- سهل طابا

لوحة سهل طابا للرسام الفرنسي جان ليون جيروم (الجزيرة نت)

أنطوان جوكي-مرسيليا

بلغ افتتان الرسامين الأوروبيين بالشرق خلال القرن التاسع عشر حدا لا مثيل له في أي حقبة أخرى، ويظهر معرض "الاستشراق في أوروبا.. من دولاكروا إلى ماتيس" في مدينة مرسيليا الفرنسية مدى ولع الرسامين الأوروبيين بسحر الشرق وطبيعته، وانعكاسات ذلك على الفن الأوروبي.

ويرتبط الاستشراق بشكل مباشر بفترة الاستعمار الأوروبي للمشرق العربي، لكن بالنسبة إلى الفنانين الأوروبيين الذين كانوا يبحثون عن مصادر لتجديد فنهم أو عن تغرُّبٍ خلال القرن التاسع عشر، شكّل فضاء الشرق المكان الذي لا بد من زيارته.

وثبّت الرسامون صور الحلم الشرقي باكرا، ونجحوا في ترويجها على مدى قرنٍ من الزمن، فالخِدر والمدينة العربية والصحراء شكّلت بسرعة مسرحاً لعالمٍ شهواني ومترف تارةً، وقاس وبائس تارةً أخرى، لكن مع مزيد الإيغال في الشرق اقترب هؤلاء من واقع البلدان العربية بشكل أكبر، فبدلوا استيهاماتهم المجلوبة بفهمٍ واحترامٍ أكبر لذلك الآخر الذي بدا مختلفاً جداً عنهم في البداية.

لوحة مدينة عربية للرسام كندينسكي (الجزيرة نت)
لوحة مدينة عربية للرسام كندينسكي (الجزيرة نت)

تيار الاستشراق
ولأن حملة نابليون على مصر (١٧٩٨-١٨٠١) تُعتبر حدثاً مؤسِّساً لتيار الاستشراق في أوروبا، يسلّط المعرض في صالته الأولى الضوء على إنجازات البعثة العلمية التي رافقت حملة نابليون مثل كتاب فيفان دوفان "سفر إلى مصر" الذي صدر عام ١٨٠٢، أو الموسوعة الكبيرة التي تتألف من عشرين مجلدا وصدرت عام ١٨٠٩ بعنوان "وصف مصر".

ومن بين الصور التي تزيّن هذه الكتب، ثمة رسومٌ لآثارٍ فرعونية ضخمة مغمورة بالرمل صدمت بشكلٍ خاص المخيلة الأوروبية وشكّلت لفترةٍ طويلة نماذج مفضّلة للفنانين في تمثيلهم لمصر، كما يتجلى ذلك في لوحة كارل ورنر "عند مدخل معبد أبو سمبل" أو لوحة شارل غلاير "طابا" الحاضرتين في المعرض.

ومن جهةٍ أخرى، تآلف الجمهور الأوروبي آنذاك مع النماذج التي أرساها بعض الفنانين في لوحاتهم المرصودة لأسطورة نابليون، كلوحة بيار نرسيس غيران "بونابرت مسامحاً ثوّار القاهرة"، أو لوحة ليون كونيي "معركة أبو قير"، أو لوحة جان شارل تارديو "استراحة الجيش الفرنسي في أسوان"(١٨١٢). ومن هذه النماذج: الصحراء، شجر النخيل، الضوء الساطع، والجانب المثير في وصف إطار حياة سكان الشرق وشِيمهم وطبائعهم.

ويكشف المعرض عن سفر العديد من الفنانين إلى الضفة الأخرى من المتوسّط على أثر احتلال فرنسا للجزائر عام ١٨٣٠ وقيام علاقات ودّية بين محمد علي والدول الأوروبية.

ولإظهار ولع الجيل الرومنطيقي في أوروبا بشرقنا، يستحضر القيّمون على المعرض أيضا ديوان فيكتور هوغو "الشرقيات" (١٨٢٩) الذي كتب في مقدمته "بالنسبة إلى رجال الفكر أو الفن، أصبح الشرق شاغلاً عاماً".

 شارع من واحة شتما للرسام موريس بومبار (الجزيرة نت)
 شارع من واحة شتما للرسام موريس بومبار (الجزيرة نت)

موضوع الخدر
وفي القاعة الثانية من المعرض تتم مقاربة موضوع الخِدر الذي عرف شهرة واسعة وغذت صورته المخيلة الغربية منذ القرن السابع عشر.

وبرع الرسام جان ليون جيروم في إعادة ابتكار مشاهد يومية من حياة الخِدر، فداخل ديكور مستوحى بشكلٍ أمين من الهندسة العربية والفارسية، أسقط داخل وضعيات غير محتملة أجساداً عارية ممنوحة لنظرة المتلصِّص.

أما أوجين دولاكروا فاستوحى من زياراته النادرة لسكان المغرب والجزائر المحليين لوحته الشهيرة "نساء الجزائر داخل المنزل" (١٨٣٤) التي اقترح فيها رؤية شعرية وصامتة لهذا العالم السرّي تأثر بها رونوار وماتيس وبيكاسو.

ولأن إسبانيا تبقى بالنسبة إلى الكثير من الأوروبيين مكان اللقاء الأول مع الشرق، نتوقف في الصالة نفسها عند مسألة إعادة اكتشاف الآثار العربية في قرطبة وطليطلة وغرناطة التي أثارت اهتمام الفنانين والكتّاب منذ عام ١٨٣٠، وبالتالي عند تشكيل ديكور قصر "الحمراء" رمز غنى وثراء الحضارة العربية الكلاسيكية خلفيةً مثالية للوحاتٍ كثيرة.

وفي نهاية هذه القاعة، نشاهد بعض اللوحات التي رصدها الفنانون المستشرقون لموضوع الصحراء كفضاء يرمز بقوة إلى المشهد الشرقي وفي الوقت ذاته يشكّل تحدياً تشكيلياً كبيراً نظراً إلى فراغه ولونه الموحَّد، وبالتالي إلى صعوبة تمثيله.

لوحة صيد النمور للرسام أوجين دولاكروا (الجزيرة نت)
لوحة صيد النمور للرسام أوجين دولاكروا (الجزيرة نت)

البعد الروحي
وفي الصالة الثالثة -الأخيرة- من المعرض، يتبيّن لنا كيف تأثّر هؤلاء الفنانون بالبُعد الروحي لشرقنا وكيف شكّل الواقع اليومي للشعوب المحلية مصدر وحيٍ لهم ساهم في تجديد فن الرسم الديني، كما شكّلت الممارسات الدينية وهندسة الأماكن المقدسة إحدى موادهم المفضّلة.

وتختتم المعرض لوحات لفنانين كبار ساهموا بين عامَي 1881 و1914 في تجديد اللغة التشكيلية وشكل الشرق محطةً أساسية في مسارهم الفني، مثل أوغست رونوار.

أما هنري ماتيس الذي ولع باكراً بالفن الإسلامي فيعرف حقبة إبداع غنية يقول على أثرها: "حلّت الرؤية عليّ في الشرق"، وبول كلي الذي شكّلت زيارته لمدينة القيروان التونسية محطةً أساسية على الدرب الذي سيقوده إلى التجريد.

المصدر : الجزيرة