"منفى اللغة" مأزق الكتاب الفرنكفونيين

كتاب مجلة دبي

جهاد هديب-الشارقة

"منفى اللغة" الذي صدر مؤخرا مع العدد الجديد من مجلة "دبي الثقافية" للروائي العراقي شاكر نوري، هو كتاب أفكار بامتياز، ويشتمل على حوارات أجراها في باريس مع ثلاثين كاتبا باللغة الفرنسية، من غير الفرنسيين من العرب وغيرهم.

والأفكار الواردة في الكتاب هي نتاج خبرات فردية في العيش والكتابة بلغة أخرى وفي مجتمع آخر، أكثر من أنها نتاج تأملات أو قراءات في حالٍ ما، مما يعني أنها مرتبطة بالتجربة الكيانية للشخص، الأمر الذي يقود الكاتب وكتابته إلى "منفى اللغة" بالفعل، وهو منفى بكل ما تعنيه الكلمة وليس بالمعنى المجازي.

ويتداخل هنا الجانب الذاتي، بكل ما يشتمل عليه على صعيد التنشئة الأسرية والتربوية والمكتسبات الثقافية وطريقة التعبير عن الذات، والجانب الموضوعي المتمثل بالمحيط والبيئة والمجتمع "الآخر" -فرنسا- ومدى تقبله لهذا الطراز من المبدعين المهاجرين إليه من مستعمراته السابقة، وكأن تلك المستعمرات باتت إرثا من غير الممكن التخلص منه أو من الإحساس بعبئه على كاهل المجتمع.

ومع الأخذ بعين الاعتبار التفاوت في مستوى القيمة المعرفية للأفكار الواردة شفويا على ألسنة أصحابها، فلو أخذنا نموذجا، اقتطاعة من حوار شاكر نوري مع الكاتبة والرسامة الفرنسية الأميركية من أصول لبنانية إيتيل عدنان، التي تقيم ما بين باريس ونيويورك وتكتب بالإنجليزية أكثر مما تكتب بالفرنسية، فإن ما يرد على لسانها مدعاة للتأمل.

وتقول إيتيل عدنان "عندما سألت أحد الشعراء الفرنسيين عن الشعراء الفرنكوفونيين ولماذا لا يقرأ لهم قال "إنهم مشتقات عن الثقافة الفرنسية"، وهذا خطأ الشعراء والكتّاب الأجانب الذين يكتبون بالفرنسية، يجب أن يعرّفوا أنفسهم بأنهم شعراء أو كتّاب مغاربة أو من جنسيات أخرى بالتعبير الفرنسي، فالفرنكوفونية ليست هوية".

والحال أن الأمر هنا -وفقا لقَدْرٍ من التأويل- لا يتصل بالقراءة من عدمها أو من الموقف الثقافي المسبق من هذا الطراز من المثقفين الفرنسيين، بل ربما هو العمى القومي الذي أفضى بالشاعر الفرنسي إلى الترفع عما بات الآن إرثا في الثقافة المكتوبة بالفرنسية، والذي ترك أثرا بالغا فيها وجدد روح لغتها وأجرى دماء جديدة في عروق أدبها وثقافتها إجمالا.

منفى قسري

إنهم مشتقات عن الثقافة الفرنسية وهذا خطأ الشعراء والكتّاب الأجانب الذين يكتبون بالفرنسية، يجب أن يعرّفوا أنفسهم بأنهم شعراء أو كتّاب مغاربة أو من جنسيات أخرى بالتعبير الفرنسي، فالفرنكوفونية ليست هوية

وهذا الإلغاء الذي يلمس المرء فيه الكثير من العجرفة والتعالي لا يريد أن يرى مثقفين من طراز رفيع من أبناء المستعمرات من أمثال فرانز فانون -جزيرة المارتينيك- وليوبولد سيدار سنغور -السنغال- وحتى الجيل الأخير من هؤلاء الكتّاب من أبناء المهاجرين إلى ضواحي المدن الكبرى من مستعمرات فرنسا السابقة يريهم من المستهلكين للثقافة الفرنسية ولا يقبل أن يكونوا من المنتجين فيها.

بالمقابل فإن الندرة من بين هؤلاء الكتّاب من أبناء المستعمرات قد قُدِّر لهم أن يُترجموا إلى لغاتهم الأم أو لغات أخرى، علما بأن اختيار فرنسا مكانا للعيش وفضاء للغة لم يكن منفى اختياريا للكثير من بينهم بل جاء قسريا، ليس بالضرورة بالمعنى السياسي بل بالمعنى الاجتماعي للكلمة.

ولعل هذا هو المقصود "بمنفى اللغة" حيث الكاتب ليس من هنا أو من هناك، بل هو معلَّق في فراغ صارم ومتجهم، وعليه أن يبني في هذا الفراغ بيت عزلته الإبداعية الخاص به، إنه قَدَر لا فكاك منه.

وحقيقة الأمر فإن هذه الشريحة من المثقفين الذين التقت بأحدهم إيتيل عدنان، وحتى البعض الفرنسيين العاديين، يفضلونك متفرنسا لا فرنسيا، حتى لو كنت تحمل الجنسية الفرنسية وتتمتع بالحقوق المدنية مثله تماما، وذلك على نحو ما كان يفعل الإغريق في مستعمراتهم المتوسطية، فهم الهيلينيون أما الذين هم تحت سيطرتهم فهم الهيلينستيون.

وبالتأكيد مثلما أن هذا الأمر ليس شأن الفرنسيين جميعا، فهو لا يشغل جميع صفحات الكتاب، بل إن "منفى اللغة" لا يخلو من بعض "الطرافة" فألبير قصيري -المصري الأصل- الذي عاش حياته بأكملها في فندق يكتب لأنه يشعر بالضجر، لذلك فهو قلما يكتب، وعندما يكتب فإنه يستخدم فرنسيته لأنه نسي لغة أمه وليس لغته الأم.

وفي منفى اللغة يؤكد الكتّاب من أصول عربية جميعا بأنهم كتّاب عرب، ويتناولون في أدبهم موضوعات عربية تختلف من كاتب لآخر تعبيرا عن الرغبة في الكتابة باللغة الأم أو ما يسمونه هم كذلك. أهذا هو الحنين الذي يكبر في "منفى اللغة" فحسب؟

المصدر : الجزيرة