البارودي فارس السيف والقلم أين هو في مئويته؟

محمود سامي البارودي
 
إذا ما اعتبرنا أن الشعر هو تعبير عن صاحبه، فإن هذين البيتين اللذين ينضحان بالعزة والقوة والكرامة هما أكبر دليل على التعبير عن فروسية الشاعر، وعشقه للحياة الحرة التي ينتزعها بسيفه:
 
وَإِنِّي امْرُؤٌ تَأْبَى لِيَ الضَّيْمَ صَوْلَة
مَوَاقِعُهَا فِي كُلِّ مُعْتَرَكٍ حُمْرُ
أَبِيٌّ عَلَى الحِدْثَانِ، لاَ يَسْتَفِزُّنِي
عَظِيمٌ، وَلاَ يَأْوِي إِلَى سَاحَتِي ذعْرُ
إِذَا صُلْتُ صَالَ المَوْتُ مِنْ وَكَرَاتِهِ
وَإِنْ قُلْتُ أَرْخَى مِنْ أَعِنَّتِهِ الشِّعْرُ
 
تلك هي صورة الشاعر المصري محمود سامي البارودي الذي احتفلت الأوساط الأدبية والثقافية -هذا الأسبوع- بمرور مائة عام على رحيله باعتباره رائدا لحركة إحياء الشعر العربي في القرن التاسع عشر.
 
عاش البارودي الذي ولد عام 1839 حياة شاعر ورجل دولة ومصلح وثائر، ونجح في تجسيد نموذج جديد للشاعر بعد قرون عديدة من اقترابه من نموذج النديم أو المهرج كما نجح في تجسيد مفهوم جديد للشعر بعد أن ظل نحو خمسة قرون يرسخ مفاهيم متخلفة تدورحول الأحاجي والألغاز والمحسنات والتلاعب بالكلمات، بل ونجح في تجسيد مفهوم جديد كذلك للغة وقدرتها الخارقة على التجدد بعد أن ظن أن الموت قد لحق بها.
 
ولا نجافي الحقيقة إذا قلنا إن هذا الشاعر قد نجح في تجسيد مفهوم جديد للمواطنة وعلاقتها بالموروث التراثي، حين واءم بين العروبة في لغة تراثها الناصعة، والمصرية في اعتزازها بتاريخها الفرعوني العظيم للمرة الأولى، وبطبيعتها الخلابة الساحرة مرتبطاً كل ذلك لديه بمشاعره الذاتية الحميمة، وصور حالاته النفسية المتتابعة، وذاتيته الإنسانية والتراثية الحية في مزيج فريد شكل فيما بعد نماذج عظيمة لمسيرة الشعر العربي.
 
حركة الإحياء هذه في الشعر العربي -كما سماها أحمد عبد المعطي حجازي– والتي كانت حركة نهضة ويقظة وبعث وتسمى أحيانا الاتباعية والكلاسيكية.. إلخ لم تكن تقليداً سهلا بسيطاً، وإنما كانت بحثاً في اللغة القديمة عن اللغة الجديدة, وانتشالاً للشعر من الهوة السحيقة التي سقط فيها.

 
ارتفع البارودي بمستوي الشعر العربي إلى منزلة الشعراء الكبار في عصور الأدب الأولى، أسلوباً وصياغة وفكراً حين اتخذ من أدبهم  نبراساً ومنهجاً، وربط بين شعره وعصره وواقع حياته وتجاربه الخاصة، وبذا استطاع بجدارة فائقة أن يتخطي بشعره عناصر الضعف في الشعر العربي الى عناصر القوة، وأن يجدد في كثير من موضوعاته على غير مثال معاصريه.
 
وإيمانا منه برسالة الشاعر في الحياة، التي حدد معالمها في مقدمة ديوانه فقد استحدث البارودي نماذج شعرية فيها طابع الجدة في مجالات الوصف والشعر السياسي والهجاء والنقد الاجتماعي، وكذلك في مجالات الرثاء والمديح.
 
من كل هذا يمكننا فهم الأهمية لدى الناقد عباس محمود العقاد في تقويمه للبارودي على أن يوازن بين عنصرين أولهما الثقافة وثانيهما الابتكار.
 
فالثقافة ناجمة من قدرته على مجاراة الجاهليين والمخضرمين والعباسيين، والابتكار عنده ناشئ عما ولدته هذه الثقة من الإيمان بالذات، والاعتماد على النفس.
 
لقد كان للبارودي -أيضا- دوره السياسي في النضال وخاصة في الثورة المصرية (1881 ـ 1882) التي أطلق عليها ثورة عرابي. وعلينا هنا أن نجيب عن سؤال وهو: كيف تمرد البارودي على طبقته الاجتماعية التي قامت الثورة من أجل تصفية نفوذها؟.
 
 لقد كان البارودي مناهضا سياسيا للتدخل الأجنبي في البلاد والهيمنة على اقتصادها ومقدراتها ويتجلى ذلك في مساعدته  لعرابي على فتح قنوات اتصال مع السلطان والصدر الأعظم، ومع الشخصيات الأدبية ذات التأثير في الرأي العام الأوروبي ثم الدور الذي لعبه البارودي في الحرب محاولاً أقامة خط دفاع شرقي عن البلاد.
 
لقد لاقى شاعرنا الراحل بسبب مواقفه أذى كبيرا وصل إلى حد الحكم عليه بالإعدام ليتم تخفيفه إلى نفي عن وطنه الذي ناضل من أجله وأحبه. فقد نفي إلى جزيرة بالمحيط الهندي ليفقد بصره ويعود إلى أرضه ومعه أنشودة العودة التي يقول فيها:
 
أَبَابِلُ رَأْيَ العَيْنِ أَمْ هَذِهِ مِصْرُ
فَإِنِّي أَرَى فِيهَا عُيُونَاً هِيَ السِّحْرُ
نَوَاعِسَ أَيْقَظْنَ الهَـوْى بِلَوَاحِظٍ 
تَدِينُ لَهَا بِالفَتْكَةِ البِيضُ وَالسُّمْـرُ
فَلَيْسَ لِعَقْلٍ دُونَ  سُلْطَانِهَا حِمَىً 
وَلاَ لِفُؤَادٍ دُونَ غِشْيَانِهَا  سِتْـرُ
فَإِنْ  يَكُ مُوسَى أَبْطَلَ السِّحْرَ مَرَّةً 
فَذَلِكَ عَصْرُ المُعْجِزَاتِ وَذَا عَصْرُ
فَأَيُّ فُؤَادٍ لاَ يَذُوبُ صَبَابَـةً 
وَمُزْنَةِ عَيْنٍ لاَ يَصُوبُ لَهَا قَطْرُ؟
 
عاد البارودي بأنشودته ليموت عام 1904 على أرضه بعد مسيرة حافلة رسخت في أذهان جيله, شكلت فيها مواقفه أرضا خصبة لطرح عميق وحديث على المستويين السياسي والثقافي, يجعلنا في مئويته نتساءل أين هو البارودي المجدد في زمننا الذي يحتاج فيه الشعر والسياسية إلى فارس سيف وقلم؟.

 
_______________________
المصدر : الجزيرة