من نيويورك إلى القاهرة.. كيف نشأت موسيقى الراب والتراب؟

المهرجاتات لم تخضع لحسابات شركات الإنتاج ولا سطوة رأسمالها لفترة طويلة من الزمن (بيكسلز)

بدأ الراب في نيويورك مثلما بدأت المهرجانات في القاهرة، فنا هامشيا لا يعتد به خارج مجتمعات السود، لكنه ليس غناء إنما يعد نوعا من أنواع الأداء الصوتي، كأحد فروع ثقافة "الهيب هوب"، ونشأ معها في بداية السبعينيات في حي برونكس، ولاية نيويورك على أيدي الأميركيين الأفارقة، كوسيلة فنية يعبر بها المغني عن نفسه.

"راب" هو اختصار لعبارة "Rhythm And Poetry" (الإيقاع والشعر)، شعر يُلقى سريعا على إيقاع ثابت في الخلفية بقافية معينة، تسمح بالتلاعب اللفظي حتى تتماشى مع القافية دون الالتزام بلحن معين، كما تتحرر من القوالب الموسيقية المعتادة، وفي موسيقى الراب يتحدث المؤدون عادة عن أنفسهم، وعن استيائهم وغضبهم من صعوبات الحياة، بحرية أكبر، لذلك، غالبا ما يرافق أداءهم الحديث عن موضوع شائك أو قضية مشوشة.

التراب.. صوت العصابات

بعد 20 عاما تقريبا من نشأة "الراب" في شمال شرق الولايات المتحدة الأميركية، نشأت موسيقى "التراب" في جنوبها، وعلى العكس من الراب، فإن التراب هو غناء موسيقي، يلتزم باللحن والتناغم، لكنه مثل الراب قد يكسر القوافي أو يتلاعب بالألفاظ للحفاظ على اللحن والموسيقى.

وحمل هذا اللون الموسيقي اسمه نسبة لبيوت تصنيع وتجارة المخدرات التي انتشرت في الجنوب الأميركي والمعروفة باسم "تراب هاوس"، حيث تنتشر عصابات الشوارع التي تفرض سيطرتها وتدير نوادي الليل والبارات، وتجارة المخدرات والسلاح، ومن هذا العالم يخرج قاموس أغنيات "Trap" أو "الفخ" الذي يشبه في موضوعه موضوعات الفخر العربي القديم بقدرات الجنود ومهارات المبارزة والسيوف، باختلاف طبيعة السلاح، ومع قليل من لمحات حياة الليل والخروج على النظام والقانون.

الراب والتراب بكلمات عربية

كانت المهرجانات لونا غنائيا جديدا وأصيلا، ولد ونشأ وتطور في مصر، ووضع قواعده وعاد ليكسرها دون التزام، كانت فنا ديمقراطيا لا يملك كتيب إرشادات ولا قالبا معتادا لا ينبغي الخروج عنه، وإنما يتفاعل ويتطور مع قدرة ممارسيه على الابتكار ووضع قواعد جديدة، وبالتأكيد لم يخضع لحسابات شركات الإنتاج ولا سطوة رأسمالها لفترة طويلة من الزمن، إذ كان يخضع لسياسة تعاملت معه باعتباره فنا هامشيا، سيأخذ وقته قبل أن يندثر، لكن ذلك الهامش كان أكثر اتساعا من المتن الخاضع لحسابات الإنتاج والسوق. ذلك السياق الهامشي منحه مساحة حرة غير محدودة سمحت للمهرجانات بالتشكل حسبما اتفقت الظروف.

وبذلك كانت "المهرجانات"، أكثر حظا وجرأة من أغنيات الراب والـتراب المستوردة بكتيب القواعد والإرشادات الموضوع في الشوارع الخلفية الأميركية، رغم أنها وصلت إلى المنطقة العربية قبل ظهور المهرجان.

ففي مطلع الألفية، وحين كانت شبكة الإنترنت في مصر حديثة العهد بطيئة ولا تتوفر إلا للشركات الكبرى أو عبر شبكة وصلات موازية يقوم عليها شباب الأحياء، كانت سوق الموسيقى تحت سطوة شركتي إنتاج كبيرتين هما "عالم الفن" و"فري ميوزيك"، التي تبيع إنتاجها لقنوات العرض، كان مشهد الراب محدودا على الهامش، مثل مشاهد موسيقية أخرى في الثقافة الجماهيرية، لكنه لم يخلُ من محاولات بدائية؛ إما مقلدة للثقافة الأميركية تحاول نقل ملامح المشهد العالمي إلى مصر دون توليفه مع الثقافة الشعبية.

ولم تكن محاولات الممثل والمخرج أحمد مكي ناضجة بحسها الأخلاقي التوجيهي ذات صبغة التنمية البشرية، أو قريبة من قواعد الراب في العالم، كذلك لم تكن محاولات الشاب حسام الحسيني الذي يغني الراب بالإنجليزية لجمهور عربي محاولات ناضجة أو تقدم جديدا، كان فقط ينقل الأغنية بثقافتها دون اعتبار لاختلافات الجغرافيا والبيئة والثقافة، كمن يغني أغاني الزفاف المصرية الشعبية داخل قاعة ألبرت هول، قد تنبهر بها في البداية لكنك لن تفهم شيئا.

ومع انتشار الإنترنت في نهاية العقد الأول من الألفية، بدأ المشهد الثقافي المصري يتغيّر، ومعه بطبيعة الحال مشهد الراب المصري.

الجيل "زد"

في العقد الثاني من هذا القرن، قدم مجموعة من الشباب تحت الـ20 تجربة مختلفة عن التراب الأميركي وامتلكوا من الثقة وحرية التجريب ما يسمح لهم بتخصيص الراب لما يتوافق مع تجربتهم، بدلا عن ادعاء ما لا يملكونه ليلائم الطراز الأميركي للراب.

شباب في نهاية مراهقتهم لا يملكون من الحياة سوى التجربة وحياة المراهقين في الشارع، لا سلطة ولا نفوذ ولا ثروة، وتجربة متخبطة، يمكننا التعرف إلى هذه التجربة عبر أغنية جمعت مروان بابلو بصديقه القديم ويجز، صدرت في منتصف عام 2018؛ بعنوان "دايرة ع المصلحة" من مقاطعها التي يغنيها مروان بابلو وويجز.

“ألحاني حزينة، كمان مكسور

أنا في المدينة ديه كتاب مفتوح

همشي لبعيد لحد ماتوه”

كلمات بعيدة عن التبجح والفخر المعتاد في أغاني التراب الأميركي، وتبدو أكثر شخصية وقربا لأبناء طبقة متوسطة، لم تعانِ فقرا مدقعا ولم تجرب حياة الرفاه؛ إذ يظهر في "الفيديو كليب" صالة ضيقة في إحدى شقق الإسكان سيئة التخطيط، بأثاث يلائم شقق الطلبة، بدرجة حرارة يمكن مواجهتها بالصدر العاري كما يظهر الشباب في الفيديو قليل التكاليف، والصوت الذي يلعب الأوتوتيون (معالج إلكتروني للأصوات) في درجاته وسرعاته.

"الواقع ممكن يطلع كدب

شيطاني ف راسي بيفرز سم

الواقع ممكن يطلع حلم

ولسه برده دايرة ع المصلحة"

ستنمو هذه التجربة مع تزايد جمهورها، ونضج مؤديها لتفترق مسيرة الاثنين ويتجه كل منهما لتجربته الخاصة، ويتحول ويجز لنجم لامع، يجرب أنواعا شتى من الموسيقى والأنماط الغنائية بعيدًا عن الراب والتراب، لكنه لن يتخلى عن الأوتوتيون.

المصدر : الجزيرة