أصوات من السماء.. أعلام المدرسة المصرية وفن تلاوة القرآن الكريم

لم تُصنع هذه السُمعة بالأصوات الجميلة فقط وإنما بإجادة الأداء وسلاسة الانتقال بين المقامات، وقواعد صارمة للاعتراف بجدارة حامل لقب "قارئ قرآن بالإذاعة المصرية".

كومبو كامل يوسف البهتيمي وعبد الباسط عبد الصمد محمد صديق المنشاوي
أعلام مدرسة قراءة القرآن الكريم (من اليمين) الشيخ محمد صديق المنشاوي والشيخ عبد الباسط عبد الصمد والشيخ كامل يوسف البهتيمي (الجزيرة)

لعقود عديدة، ارتبط فن تلاوة القرآن باسم أعلام القراء المصريين الذين تميّزوا بسمات بارزة، وأصوات عذبة، وشكلوا بأدائهم ملامح مميزة للمدرسة المصرية في التلاوة، وصاروا مطلوبين للقراءة والترتيل في أرجاء العالم الإسلامي كله.

اتسمت التلاوة المصرية دوماً بخصائص جعلتها تحظى بتلك المكانة الكبيرة، وفضلًا عن الأصوات الشجية العذبة التي جادت بها مصر على العالم الإسلامي، تميزت التلاوة المصرية بدقة أحكام التجويد، والتغني بالقرآن وفقاً لمقامات النغم العربية، وإجادة العديد من القراءات بأحكامها.

لم تُصنع هذه السُمعة بالأصوات الجميلة فقط وإنما بإجادة الأداء وسلاسة الانتقال بين المقامات، وقواعد صارمة للاعتراف بجدارة حامل لقب "قارئ قرآن بالإذاعة المصرية".

المدرسة المصرية.. التصاعد من نسيم هادئ إلى الذروة

منذ تأسست الإذاعة المصرية عام 1937، وإطلاق أول بث لها بصوت القارئ محمد رفعت، وُضعت قواعد شبه راسخة للتعامل مع المقامات الموسيقية، وترتيبها في التلاوة. فأصبح الاستهلال بمقام البياتي قاعدة لا تتغير، ثم يأتي الصبا أو الحجاز، ثم النهاوند، ثم الراست، أو السيكاه، ثم العجم أو الجهاركاه، ثم العودة إلى البياتي تمهيداً للختام.

كان هذا الترتيب هو الغالب، وقد يختلف بتقديم مقام على آخر، لكن الثابت فيه أن الاستهلال يكون بمقام البياتي، في حين يشبه التصاعد من نسيم هادئ إلى ذروة التلاوة بقوة.

ومع أربعينيات القرن الماضي، رسخ الشيخ مصطفى إسماعيل لهذا الترتيب، كما وضع قاعدة تفيد بإشباع المقام، والوصول إلى جوابه قبل الانتقال إلى غيره، مما ساهم في جعل التلاوة المصرية مدرسة ذات بناء متماسك، ومنحها إطاراً يشد بنيانها.

إن لم يكن قارئاً فهو مبتهل

فيما يُروى عن الشيخ الراحل نصر الدين طوبار، أنه تقدم لاختبارات قراء القرآن الكريم بالإذاعة المصرية 5 مرات متتاليات، وفشل في الالتحاق بها، حتى نجح في مرّته الأخيرة لكن منشدًا ومبتهلًا، في زمن كان قراء القرآن المنتسبون للإذاعة قامات كبرى شهيرة: الشيخ مصطفى إسماعيل، عبد الفتاح الشعشاعي، عبد الباسط عبد الصمد، أبو العينين شعيشع، محمد صديق المنشاوي، محمود خليل الحصري، كامل يوسف البهتيمي، محمود علي البنا.

كانت لجنة القبول بالإذاعة مكونة من قسمين، قسمٌ متعلق بأحكام التلاوة والتجويد والحفظ، وقسم آخر يتعلق بحلاوة الصوت، والقدرة على الانتقال بين مقاماتها المعتادة. وتتكون من الشاعر محمود حسن إسماعيل، الملحن والموسيقار محمد حسن الشجاعي الذي كان صارماً بشدة.

ففي عهد الشجاعي، رفضت الإذاعة قبول عدد من أصحاب الأصوات الجميلة وتسجيلهم كقرّاءٍ للقرآن الكريم، منهم طوبار وسيد النقشبندي، في حين احتاج الشيخ محمد محمود الطبلاوي 10 سنوات كي يُقبل ويصدح صوته عبر الأثير.

كما لم تقبل الإذاعة الشيخ محمد عمران حتى وفاته، وبالطبع لا يمكن لأحد أن يعيب على الأخير صوته أو أحكام تجويده، لكن طريقته في التلاوة، وقفزاته المقامية من جملة لأخرى بسرعة، وكثرة استخدامه للسلالم صعوداً وهبوطاً، ولجوؤه كثيراً للتتالي النغمي جعلت تلاوته أقرب إلى الإنشاد الديني أو أبعد عن الالتزام بالمدرسة المصرية في التلاوة.

ثورة على القواعد

في الثمانينيات، وبالتزامن مع زمن الكاسيت، بدأ بعض القرّاء الجدد مخالفة قواعد المدرسة المصرية، إما بالتنقل سريعاً بين المقامات، أو عدم التنويع فيها، مثل قدامى القراء، ثم أصبح هؤلاء نجوم ساحة التلاوة، داخل مصر وخارجها.

ومع دخول الألفية الجديدة، وعصر الفضائيات وبعض القنوات المتخصصة في إذاعة القرآن الكريم، والمدرسة التي تفضل البعد عن التتالي النغمي أو النغم وعن المقامات القرائية، ومنهم القارئ مشاري راشد العفاسي وعبد الرحمن السديس وأحمد العجمي، ظهر جيل جديد من شباب القراء يبعد بمسافة كبيرة عن قواعد مدرسة التلاوة المصرية، كانوا أقرب إلى قراء الثمانينيات، مثل الشحات أنور وسيد متولي وعبد الوهاب الطنطاوي.

وبدلاً من الترتيب المستقر للمقامات، أصبح القارئ يتلو دقيقة أو اثنتين من مقام البياتي، ثم يقفز منه إلى مقام الراست، أو النهاوند بل إلى درجات عُليا منه.

هل يكفي الصوت الجميل؟

لم تخلُ المنطقة العربية من الأصوات الشجية العذبة، والأداء الملتزم، منهم الشحات أنور (مصر) ويونس اسويلص (المغرب) والشاب الزين محمد أحمد (السودان) لكن ثمة ملاحظات في استخدام المقامات القرآنية المنغمة، فقد تجد فيها بعضاً من الجمال في قراءة آيات بعينها على حساب آيات أخرى، لكن يغيب عنها فكرة البنية المتكاملة.

وربما يكون بعضها جميلاً في ذاته، لكن الصورة الكاملة لتلاوة السور قد تعجب أذن المستمع ويلتفت أو يُثني على قدرة الشيخ على مقام معين أو الانتقال من مقام لآخر، لكن حين يرغب في التدبر والتأمل وإدراك جماليات النص القرآني ومعانيه ربما يجد غايته عند المُعلمين الكبار.

المصدر : الجزيرة