بالشم واللمس.. مكفوفون أردنيون يبدعون بالرسم وينتجون لوحات فنية

عمّان- يتلمس الألوان بيديه، يزيل عنها الغطاء، يشتم رائحتها ليعرف لونها، فرائحة الليمون تعني لديه الأصفر، أما رائحة الفراولة فهذه للأحمر، ورائحة القرفة ترمز للبني، والقهوة للأسود، وهكذا.

يبدأ الطالب الكفيف ليث عنكير (12 عاما) موهبته بالرسم بتحسس إطار قطعة من القماش أو الورقة المخصصة للرسم، ليتعرف على مساحاتها الجانبية، بعد ذلك ينطلق بالتخيل لرسم ما يريد أن يعبر به عن مكنوناته الداخلية، أو يتحسس مجسما لشيء معين يبدأ بعدها برسمه.

دراسة.. رسم

في أيامه الأولى، أصيب عنكير بمرض أفقده حاسة البصر، فلم ير من الحياة إلا ما يسمعه ممن حوله ويتخيل ذلك في عقله "أدرس في مدرسة المكفوفين العلوم المتنوعة بمساعدة لغة برايل" كما يقول للجزيرة نت، ويضيف "تعلمت الرسم من خلال مبادرات أطلقها سهيل بقاعين لتعليم المكفوفين، لم يسبق لي قبل ذلك ممارسة فن الرسم واستخدام الألوان".

ويتابع "أعبر في الرسومات التي أقوم برسمها عن الحياة التي يعيشها الناس، من أشجار وحيوانات وغابات وشمس، تعلمت ذلك من سهيل لأنني لا أعرف تلك الأشياء ولم أرها سابقا، لكنني اتخيلها وأعبر عنها بحسب ما أتخيله".

بقاعين متحدثا عن رسومات طلابه المكفوفين. الجزيرة . مرسم سهيل بقاعين في منطقة اللويبدة وسط عمان_
بقاعين متحدثا عن رسومات طلابه المكفوفين (الجزيرة)

10 أعوام تعليم

وعلى مدى 10 أعوام مضت، أمسك الفنان بقاعين بأيادي وأصابع الطلبة المكفوفين وذوي الإعاقة البصرية ليعلمهم الرسم، وتمكّن عبر تلك الأعوام من تدريب العشرات، من خلال مبادرة "عبق اللون" استمر معه بالرسم نحو 15 طالبا أبدعوا بإنتاج رسومات فنية جميلة، حسب قوله.

وتقوم فكرة مبادرة "عبق اللون" -وفق حديث مؤسسها للجزيرة نت- على تدريب الطلبة المكفوفين وذوي الإعاقة البصرية على الرسم، ومنحهم القدرة للتعبير عما يدور بمخيلتهم وما يشعرون به من أحاسيس وعواطف وآمال وآلام، وكسر حاجز الخوف لديهم، ودمجهم بالمجتمع والمحيط الذي يعيشون به.

ومن خلال حاستي الشم واللمس، تمكّن بقاعين من تعليم الطلبة المكفوفين ومن لديه بقايا بصرية الرسم، وذلك لدمجهم بمجتمعاتهم، ومنحهم فرصة للتعبير عن طاقاتهم، وتحويل أحلامهم إلى حقائق.

يواجه بقاعين في تعليمه المكفوفين صعوبات وتحديات أكثر من الأشخاص ذوي الإعاقة البصرية، ويرجع ذلك إلى أن هؤلاء الطلبة ليس لديهم معرفة أو مخزون من الذاكرة تساعدهم على معرفة الأشياء، وذلك لعدم رؤيتهم لها مسبقا كالأرض والشجر والسماء ووجوه الناس وأشكالهم وغيرها.

ويركز في تعليمهم على التخيل، ويعمل من خلال حديثه مع الطلبة والطالبات على فتح أبواب التخيل لهم، وصناعة صورة في مخيلة كل طالب حتى يتمكن من التعبير عن نفسه، على حد قوله.

الكفيف ليث عنكير يتعلم الرسم من مبادرة عب اللون. الجزيرة . مرسم سهيل بقاعين في منطقة اللويبدة وسط عمان_
عنكير يتعلم الرسم من مبادرة عبق اللون (الجزيرة)

روائح عطرية.. ألوان

يمزج بقاعين الروائح العطرية بالألوان، حتى استطاع ربط الفن بحاسة الشم لدى المكفوفين وذوي البقايا البصرية، من خلال ربط الأحمر برائحة الكرز أو الفراولة، والأخضر بالنعناع، والأصفر بالليمون، وهكذا، حتى يتمكن الكفيف من التعرف على اللون ورسم ما يتكون في مخيلته.

بدأ هذا الفنان الرسم في سن صغيرة، وتمكّن بعمر 10 سنوات من الحصول على جائزة للرسم من منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسيف" وعام 1995 أقام أول معرض لرسوماته بالفن التشكيلي ضم 150 لوحة فنية.

تعلّق بقاعين بوالدته كثيرا، وألهمه مرضها بالسكري وضعف بصرها فكرة تعليم الرسم للمكفوفين وذوي الإعاقة البصرية، ووفاء لوالدته بعد وفاتها، توجه بقاعين صوب مدرسة المكفوفين عارضا عليهم فكرة تعليمهم فنون الرسم.

مرسم سهيل بقاعين في منطقة اللويبدة وسط عمان_
مرسم بقاعين في منطقة اللويبدة وسط عمان (الجزيرة)

ضحك وسخرية

بداية الأمر، عندما عرضت فكرة المبادرة قابلتها الإدارة بـ "الضحك والسخرية" كما يقول بقاعين، وذلك لصعوبة ما يطمح لتنفيذه حسب رأيهم، خاصة وأن الطلبة لا يمتلكون مهارة الإمساك بالقلم أو ريشة الرسم، إضافة إلى أن المدرسة لا تخصص لهم حصصا للفن.

عند ذلك "زاد تمسكي بمبادرة تعليم هؤلاء الطلبة للفن، وتحويل إعاقتهم لحالة من الإبداع في إنتاج رسومات فنية مبهرة، من خلال تطوير حاسة الخيال والإبداع لديهم، وكسر الحواجز وإزالة المعيقات من أمامهم".

وعلى مدى سنوات من العمل والتدريب المستمر والمثابرة، تمكن الطلبة من إنتاج لوحات فنية غاية بالجمال، أبهرت من يراها، وحظيت بإعجاب الملك عبد الله الثاني والملكة رانيا العبد الله اللذين زارا أكاديمية المكفوفين والتقيا بالأطفال المبدعين من المكفوفين، مما شكل لهم حالة من الدعم النفسي والمعنوي، وحصل بقاعين على تكريم من الملك بمنحه وسام الاستقلال عام 2017 على مبادرته.

أقام بقاعين، وبمساعدة متطوعين، معارض فنية لرسومات المكفوفين وذوي الإعاقة البصرية كل عام منذ 2012، وزارت رسوماتهم بلادا كثيرا حول العالم أهمها فرنسا وكوبا والهند والإمارات وجنوب أفريقيا ولبنان وموريشيوس.

المصدر : الجزيرة