الكوميديان الأزهري.. محطات في حياة "الكونت" عبد السلام النابلسي

الفنان الراحل عبد السلام النابلسي (مواقع التواصل)

القاهرة- بمذاقٍ شامي خاص ممزوجٍ بشخصية ابنٍ لإحدى حارات القاهرة، قدّم لونا فنيا مختلفا عن كوميديا جيله، يعتمد على الانفعال واللعب بالألفاظ واللغة الحوارية المختلقة، فكان الفتى الأرستقراطي الفقير المعدم، صاحب "الطريقة النابلسية" المليئة بالتناقضات.

هو الفنان عبد السلام عبد الغني النابلسي، المولود في 23 أغسطس/آب 1899، بإحدى قرى مدينة طرابلس شمالي لبنان، لأسرة فلسطينية الأصل، حيث كان جده ووالده من قضاة مدينة نابلس بفلسطين، والتي اشتق منها لقبه.

حتى مراحل متأخرة من عمره الفني، ظل النابلسي بعيدًا عن أدوار البطولة وفتى الشاشة الأول، إلا أنه كان "السنيد" الذي يقف على أكتافه البطل، فشكَّل ثنائيات مع العديد من نجوم السينما في عصره، أبرزهم إسماعيل ياسين الذي تقاسم معه أدوار البطولة، وعبد الحليم حافظ، وفريد الأطرش.

أطلق عليه الفنان الراحل يوسف وهبي لقب "الكونت دي نابلسي"، نظرًا لموهبته في الظهور كرجل أرستقراطي خفيف الدم، كما اشتهر بألقاب "حسب الله السادس عشر" الذي جسده في أحد أفلامه، و"أشهر أعزب"، والأخير سقط عنه في آخر أيامه بعد زواجه من إحدى المعجبات اللبنانيات التي تصغره سنا، قبل أن يرحل "مفلسًا" بأزمة قلبية في 5 يوليو/تموز 1968.

كانت حياة النابلسي مليئة بالتناقضات التي شكّلت ملامح شخصيته الفنية، فرغم نشأته في أسرة محافظة كانت ترغب أن يكون قاضيًا شرعيًا، فإنه كان ميالاً لأضواء السينما والمسرح، وفيما بدأ بالتراجيديا انتهى به الحال إلى الكوميديا، ورغم عائلته العريقة فإنه مات مديونًا.

الأزهري الكوميديان

في ربيعه الـ20، أرسله والده إلى مصر ليتعلم في الأزهر الشريف، كي يتفقه في الدين على خطى الأسرة، وبعد أن حفظ القرآن الكريم وتعلم الفرنسية والإنجليزية إلى جانب نبوغه في اللغة العربية، هاجر صحن الأزهر وشيوخه إلى مسارح وأستديوهات شارع عماد الدين، الذي كان قبلة لصناع السينما والمسرح بالقاهرة في النصف الأول من القرن الماضي.

نزل النابلسي القاهرة، في ذروة ثورة 1919 ضد الاحتلال الإنجليزي، فعايش أحداثها السياسية والمجتمعية والنهضة التنويرية التي شهدتها مصر بعدها، فداعبته الحركة المسرحية، التي كانت البوابة الرئيسية للفن السابع آنذاك.

أنفق كل ما كان يرسله إليه والده للدراسة على متابعة الفرق المسرحية بالقاهرة، وحين علم والده بذلك حجب عنه نفقات الدراسة، فلجأ الفتى النابلسي إلى العمل بالصحافة والترجمة لاستكمال دراسته في الأزهر.

وعن تجربته الصحفية، يقول النابلسي في حوار تلفزيوني "لو لم أكن ممثلا كوميديا لوددت أن أكون صحفيا، لأن ما ساعدني في فني هو الصحافة، وأول قلم في الشرق كتب عن السينما والمجد السينمائي هو أنا، كان في جريدة الأهرام منذ أكثر من 20 سنة، أول من افتتح الأهرام وعمل صفحة فنية ونقدا فنيا في عالم السينما هو أنا".

يا لهول الصاعقة

في عشرينيات القرن الماضي، نجحت مساعي النابلسي في الانضمام لفرقة "رمسيس" المسرحية، لكن سرعان ما انفصل عنها حيث لم يكن يحفظ أدواره، لينتقل لاحقًا إلى فرقة جورج أبيض، التي كانت تقدم عروضها باللغة العربية الفصحى، وهي اللغة التي كان يجيدها النابلسي.

كانت الصدفة أحد أسباب توجه النابلسي لتقديم الكوميديا، فأثناء اندماجه في أداء دوره التراجيدي بمسرحية "يوليوس قيصر"، انتاب الجمهور نوبة ضحك هستيري من أدائه، وحين شاهده جورج أبيض من وراء الكواليس طلب منه الابتعاد تمامًا عن التراجيديا والاتجاه للون الكوميدي.

وفي فيلم "أنت حبيبي" (إنتاج 1957)، لم يتمكن مخرج الفيلم يوسف شاهين -المعروف برؤيته الخاصة التي يحرك بها ممثليه- من تغيير أداء النابلسي، حيث أصر الأخير على طريقة أدائه لتحدث مشادة بين الطرفين، ويستسلم بعدها شاهين ويقرر عدم إخراج أفلام الكوميديا منذ ذلك الحين.

عالم النجومية

بداية النابلسي السينمائية، كانت من خلال مشاركته في دور ثانوي في فيلم "غادة الصحراء" عام 1929، وبعد عامين دخل عالم النجومية بدوره في فيلم "وخز الضمير"، ولم يكتف بالتمثيل وحسب بل اتجه إلى الإخراج، حيث عمل مساعد مخرج، تحديدًا في أفلام يوسف وهبي.

وعام 1947 ابتعد عن الإخراج ليتفرغ للتمثيل بعد أن ارتفعت أسهمه الفنية في الأدوار الكوميدية، كبطل ثان، وساعده على ذلك اجتياح تيار الكوميديا للتغلب على الآثار النفسية والاقتصادية السيئة التي خلّفتها الحرب العالمية الثانية.

ورغم أن شخصية البطل الثاني كانت السبب الأساسي في نجاحه وشهرته، فإنها كانت سببًا في مصادرة قدراته الفنية، فأنتج لنفسه فيلم "حلاق السيدات" كأول بطولة مطلقة له عام 1960، وفيه اشترك إسماعيل ياسين كدور ثان، بعد أن كان هو صاحب الدور الثاني في معظم أفلام الأخير.

وكان لنجاح النابلسي كبطل في "حلاق السيدات" أثر في تشجيع الفنان رشدي أباظة لإنتاج فيلم "عاشور قلب الأسد" له عام 1961، وفي العام التالي قام ببطولة "قاضي الغرام"، والتي ألحقها ببطولة عدد من الأفلام اللبنانية.

علامة مسجلة

ومن أهم الشخصيات التي قدمها النابلسي على شاشة السينما "الشرير" و"مدرب الرقص" و"مؤلف الأغاني" و"الموسيقار" وكذلك "المخبر السري" و"مدرب المساج" و"الانتهازي"، وجميعها أصبحت علامة مسجلة باسمه.

ففي فيلم "الحماوات الفاتنات" قدم دور مدرب المساج، وحين وصف رشاقة الفنانة "ماري منيب"، قائلا: "10 قناطير شحم و10 قناطير لحم".

وفي فيلم "شارع الحب"، قدّم شخصية "حسب الله السادس عشر"، فكان بجانب الفنانة زينات صدقي صاحبي البسمة على شفاه المشاهدين، بعد أن دارت بينهما حرب كوميدية خلال الفيلم، انتهت باستسلام "حسب الله" للزواج من "سنية ترتر"، وهي الشخصية التي جسّدتها الفنانة الراحلة.

وفي كتاب "الضاحكون الباكون" تقول الكاتبة أمل عريان فؤاد، إن نجومية وشهرة النابلسي لم تتحقق إلا من خلال أدوار السنيد (البطل الثاني)، وهو بطل أبطال هذه الأدوار التي أجاد تأديتها بكل براعة، فكان الصديق المتزن وليس الساذج كإسماعيل ياسين، أو الشعبي مثل عبد الفتاح القصري، لذا فقد تناسبت أدوار السنيد مع إمكاناته وصورته التي حاول رسمها والحفاظ عليها.

وساعده على النجومية، بدايته الفنية مع العصر الذهبي للسينما ومولد نجوم السينما الغنائية أمثال فريد الأطرش وعبد الحليم حافظ ومحمد فوزي، فقد كان وجوده في أفلام هؤلاء شيئا أساسيا يركز عليه المخرجون لإضفاء روح الفكاهة للفيلم، بمواصفاته الشخصية وطريقته ولُكنته الأرستقراطية.

في سنوات عمره الأخيرة، تفاقمت عليه الضرائب، ما دفعه إلى العودة مرغمًا إلى لبنان عام 1962، وتوهج فنيا من جديد حين تولى إدارة شركة للإنتاج الفني في بيروت، دون أن يتمكن من حل مشكلته مع الضرائب المصرية رغم تدخل كوكب الشرق المطربة أم كلثوم والأديب يوسف السباعي، حيث لم تفلح محاولاتهما لدى حكومة بلادهما في حل المشكلة.

وبعد أن أطلق عليه لقب أشهر عازب في الوسط الفني، تزوج وهو في الستينيات من عمره بإحدى معجباته وتدعى جورجيت سبات.

أما زوجته جورجيت، فتقول إنها "كانت إحدى معجباته وطاردته كثيرًا حتى تمكنت من الوصول إليه وإقناعه بالزواج بها"، مشيرة إلى أن النابلسي "كان عدوا للزواج وكان كلما يرى رجلا وزوجته كان يقول لهما: لسه (أَمَا زلتما) متزوجين؟ تفرقوا تفرقوا (تفرقا تفرقا)".

وفي لبنان، لم يستمر استقرار النابلسي فنيا كثيرا، حيث تسبب إفلاس بنك كان يودع فيه كل أمواله في ضربة قاصمة له، فتدهورت أحواله الصحية إلى أن رحل عام 1968، إثر أزمة قلبية حادة على خلاف ما صرح به للجميع أنه مريض بالسرطان، وكان ذلك حتى لا يهمله المخرجون في نسب الأدوار الكوميدية إليه في أفلامهم، فيما لم تجد زوجته جورجيت ما تنفق به على جنازته، فتكفل بها صديقه فريد الأطرش، وفق تقارير.

 

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية