تحولات العمارة الفلسطينية.. احتلال ينهش في الجمال عبر قرون

انتهت التحولات السلسة في البيئة المعمارية الفلسطينية بعد 1948، حيث تم إخلاء أكثر من 400 بلدة وقرية فلسطينية (مواقع التواصل)

عندما نذكر مصطلح العمارة الفلسطينية، نستعيد "العمارة بدون معماريين"، التي ازدهرت لقرون طويلة في المناطق الحضرية والريفية في فلسطين، وحافظت على خصائصها حتى الحرب العالمية الأولى؛ بسبب العوامل الاجتماعية والاقتصادية، التي عكست احتياجات السكان وعاداتهم المعيشية وعكست بشكل مباشر طرق التفاعل بين البشر وبيئتهم.

كان هناك العديد من المؤثرات على الأراضي الفلسطينية، منها الأنشطة المعمارية أثناء حكم القوى الأجنبية مثل الرومان والصليبيين والمماليك والعثمانيين.

وشهد عام 1832 تحولا في تاريخ المنطقة، عندما توسع محمد علي، حاكم مصر، جغرافيا وضم سوريا الكبرى بما في ذلك الأراضي الفلسطينية، ونفذ العديد من الإصلاحات العقارية والإدارية والاقتصادية، وظهرت أماكن تقديم الخدمات التعليمية والاجتماعية والصحية للسكان المحليين.

وبعد عودة السلطان العثماني عبد المجيد إلى السلطة عام 1839 طبق إصلاحات جديدة، أدت إلى اندماج الاقتصاد الفلسطيني مع سوق رأس المال العالمي، وأنتج مشاركة نشطة للقيادة المحلية الفلسطينية في السياسات المتغيرة باستمرار.

تحولات جديدة

شهدت العمارة الفلسطينية تحولات جديدة بنهاية القرن 19، وظهرت العمارة الجديدة ذات التأثير الغربي؛ بسبب وجود الجماعات التبشيرية المختلفة داخل فلسطين. تزايد هذا التطور المعماري خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن 19، واستمر بشكل مكثف مع الانتداب البريطاني على فلسطين في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي.

خلال تلك المرحلة استمر اندماج الاقتصاد المحلي الفلسطيني في سوق التجارة العالمي، وتزايد النفوذ الأوروبي داخل المنطقة، بالتزامن مع هجرة الكثير من الفلسطينيين إلى أميركا تفاديا للتجنيد الإجباري، الذي فرضته السلطة العثمانية، وإرسال الأموال إلى عائلاتهم في فلسطين لبناء منازلهم المستقبلية. بالإضافة إلى ذلك توسعت الهجرة اليهودية إلى فلسطين في ذلك الوقت، وبدأ بناء المستوطنات بأساليب معمارية حديثة.

سرّع الانتداب البريطاني التحولات في المجتمع الفلسطيني، وترك تأثيرا غربيا على الحياة بشكل عام وعلى العمارة والمباني بشكل خاص. انتشر طراز الكلاسيكية الجديدة والمباني الخرسانية، وتركز السكان أكثر في بيت المقدس ويافا وحيفا، وأصبحت الفروق المعمارية بين المدن والقرى أقل وضوحا.

تحولات ما بعد النكبة

انتهت هذه التحولات السلسة في البيئة المعمارية الفلسطينية بعد 1948، حيث تم إخلاء أكثر من 400 بلدة وقرية فلسطينية. وفي العقود التي تلت ذلك الحدث سيطرت المخططات الإسرائيلية على كتلة الأرض الفلسطينية بعد مصادرتها. أصبح هناك تجاهل تام للاحتياجات المكانية والاجتماعية والاقتصادية للفلسطينيين، وفُرضت قيود صارمة على مناطق نفوذ البلدات والقرى الفلسطينية، وحُرم المواطنون من تصاريح البناء، وبالتالي حرموا من الخدمات الأساسية مثل الماء والكهرباء والرعاية الصحية والتعليم، وبدأ هدم المنازل وطرد السكان يحدث بشكل ممنهج.

أدى تدفق 250 ألف لاجئ إلى قطاع غزة بعد النكبة إلى زيادة عدد سكان القطاع بأكثر من 300%؛ ما أثر بشكل كبير على المشهد المعماري للقطاع بعد بناء مخيمات وملاجئ تكفي السكان الجدد. وأوقف الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967 الجهود الفلسطينية الناشئة لإدخال نمط معماري دولي محليا.

وخلال سيطرة إسرائيل بشكل كامل على غزة والضفة بين عامي (1967-1993)، استخدمت السلطات العسكرية الإسرائيلية التخطيط وإدارة الأراضي كأداة للسيطرة على الأرض والإبقاء على الفلسطينيين داخل مناطق يسهل حكمها.

بالإضافة إلى ذلك، طوقت الحكومة الإسرائيلية البلدات والقرى الفلسطينية بالحدائق وأماكن الترفيه والمناطق العسكرية الإسرائيلية، والأنشطة الاستيطانية اليهودية، لتمنع توسع البلدات الفلسطينية بالرغم من النمو السكاني الفلسطيني خلال تلك الفترة.

اتخذ البعد المكاني لسياسة الاحتلال في قطاع غزة أشكالا أخرى. حيث حاولت إسرائيل إفراغ مخيمات اللاجئين، بتشجيعهم على الاستقرار في الضفة الغربية، لتوسعة المستوطنات الإسرائيلية. شن الجيش الإسرائيلي بين عامي (1969-1973) حملة مداهمات كبيرة على غزة، دمر خلالها آلاف المنازل في مخيمات اللاجئين؛ لإنشاء شبكة واسعة من الطرق وتسهيل عمليات المراقبة العسكرية.

ما بعد أوسلو

شهدت الضفة الغربية وقطاع غزة طفرة في البناء مع بداية حقبة أوسلو عام 1993، أدت إلى تغيير جذري في المشهد المعماري الفلسطيني، وظهر تباين حاد بين القديم والمعاصر، حيث توجد المنازل الفلسطينية التقليدية ذات الألوان الناعمة والقباب القديمة وسط القرى والبلدات الفلسطينية، لتمتزج بشكل جمالي طبيعي مع التلال المحيطة. وتنتشر حول تلك المراكز التاريخية المباني الأكثر حداثة والمنازل متعددة الطوابق المبنية من كتل الحجر الجيري والجدران الخرسانية والأسطح التي تحمل أطباق استقبال الأقمار الصناعية، وخزانات المياه البلاستيكية وألواح الطاقة الشمسية، وهي مبان منقطعة الصلة بالتراث الفلسطيني القديم.

بعد عام 1993 زادت المباني الحديثة في قطاع غزة. من الفنادق إلى المباني السكنية والأبراج التجارية والمنازل الصيفية. ومع مساحة غزة المحدودة أصبحت مخيمات اللاجئين مناطق مكتظة بالسكان.

ومع إجلاء المستوطنين الإسرائيليين من غزة بعد فك الارتباط، تمكنت إسرائيل من استخدام القوة الفتاكة ضد سكان القطاع بدون خوف على المستوطنين في أعوام (2008 و2012 و2014)، خاصة بعد انتشار الجيش الإسرائيلي حول القطاع؛ لتأكيد سيطرته على المعابر الحدودية، والتحكم في الحركة داخل وخارج غزة، بالإضافة إلى تعيين مساحات كبيرة من الأراضي الفلسطينية كمناطق محظورة، لتصبح فلسطين في مكان متأخر من إستراتيجيات البقاء على قيد الحياة عمرانيا وحضريا.

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية