سحر الظل والنور.. الليل كواحد من أدبيات الفن التشكيلي

كتاب ورسامون وأدباء وشعراء، فتنوا بجمال الليل وسجلوا سحره، كل على طريقته.

لوحة ليلة مرصعة بالنجوم لفان غوخ (مواقع التواصل الاجتماعي)

ربما تكون أم كلثوم أشهر من تغنت بالليل وسمائه ونجومه وقمره؛ لكنها قطعا ليست الوحيدة، فآخرون غيرها قد فعلوا مرارا وتكرارا على مر العصور؛ كتاب ورسامون وآدباء وشعراء، جميعهم فتنوا به وسجلوا سحره كل على طريقته. صور مرئية ونصوص مكتوبة شقت طريقها وسجلت مكانة مرموقة في ذاكرة الفن.

ولعل أبرز من رسموا الليل، ولاقت لوحاته حفاوة عالمية، وما تزال حتى اليوم يحتفى بها في معارض الفن الدولية هو الرسام الانطباعي فينسنت فان غوخ.

ففي لوحته الأيقونية "ليلة مُرصعة بالنجوم" (Starry Night)، التي رسمها عام 1889، وبلغت شهرتها عنان السماء، أثبت فان غوخ أن الجمال لغة خالدة يفهمها كافة الناس، ويجتمع عليها كل الشعوب.

يسيطر اللون الأزرق على اللوحة، وتتداخل التلال في السماء، في حين تقع القرية الصغيرة في أسفل اللوحة باللون البني والرمادي والأزرق. وعلى الرغم من تحديد كل مبنى بوضوح باللون الأسود؛ إلا أن اللونين الأصفر والأبيض للنجوم والقمر يبرزان ويلفتان العين إلى السماء.

تنتمي اللوحة للمدرسة الانطباعية، التي سيطرت على تيار الفن التشكيلي في أوروبا أواخر القرن 19 وأوائل القرن 20. ويعتبر الفنان الفرنسي كلود مونيه هو مؤسس هذه المدرسة وأكبر روادها. كما تعتمد المدرسة الرسم عن طريق التعبير عن انطباعات الرسام الذاتية عما يراه، ولا يجب أن تكون الصورة طبق الأصل بشكل عام.

يقول فان غوخ "إنني لا أعرف شيئا على وجهِ اليقين؛ لكن رؤية النجوم تجعلني أحلم".

في السرب نفسه، غرد الرسام الألماني كارل غوستاف كاروس (1789-1869)، والذي كان عالما فيزيولوجيا ورساما في آن، في لوحته الشهيرة "منزل في مدينة بيلينتس"، والتي رسمها في 1852، وتعد واحدة من اللوحات الشهيرة عن الليل.

نرى في اللوحة منزلا مكونا من عدة طوابق يلمع تحت نور القمر في آخر لحظات الغروب، ومن حوله النباتات والأشجار أخذت تكتسي لون الغسق. نجح كاروس في رسم درجات الغسق وتفاعل مع العناصر بشكل متقن وطبيعي جدا بدون تكلف.

تنتمي اللوحة للمدرسة الواقعية، وهي معنية بنقل المشاهد والأحداث بشكل واقعي مجرد من أي معانٍ رمزية أو أشكال مجازية. وقد تناولت مُعظم لوحات المدرسة أحداث الحياة اليومية للعمال والفلاحين والمناظر الطبيعية وكل ما يجري في الهواء الطلق ببساطة وواقعية وصدق، حتى لو كانت المشاهد غير سارة أو قبيحة بعدما فرضت الثورة الصناعية سطوتها.

لوحة "منزل في مدينة بيلينتس" (مواقع التواصل الاجتماعي)

لكل شيخ طريقة

بالعودة بالزمن للوراء، نجد أن الفن التشكيلي بشكل عام كان يميل للنزعة الملحمية في تقديم المواضيع. وكلما مضى قرن للخلف نجد اللوحات والمواضيع أكثر ميلا للتعبير بروح العصور الوسطى، حيث الأفكار الرومانسية عن الطبيعة وخلق الكون والرب والأنبياء.

ومن ضمن من قدم تلك النزعة الملحمية رسام المناظر الطبيعية الإنجليزي الشهير سيباستيان بيثر (1790-1844)، والذي عرف بولعه بالليل والقمر، ورسم الكثير من لوحات الليل والغسق والشروق والغروب. وكان موضوع أعماله الرئيسي هو التناقض الحاد بين الظلام والنور، وكيف يتغير شكل العناصر في ظلهم.

ونرى في لوحته الشهيرة "مشهد للنهر" -التي رسمها في 1840- تجسيدا واضحا لمفاهيمه عن المنظور والظلال والنور، حيث يظهر ماء النهر متلألئا تحت ضوء القمر، الذي يضفي سحرا خاصا على أكواخ الصيادين والأشجار من حولها.

وتنتمي اللوحة هي الأخرى للمدرسة الواقعية؛ مما يعني أن كافة تفاصيل اللوحة كانت موجودة كما هي عندما نقلها الرسام على قماش اللوحة. وفي عصره، كان بيثر أحد المنتمين للواقعية؛ إلا أنه ركز على نقل المناظر الطبيعية عوضا عن أي مشاهد واقعية أخرى.

لوحة الفنان سيباستيان بيثر الشهيرة "مشهد للنهر" (مواقع التواصل الاجتماعي)

وإذا رجعنا قرنا للخلف، في أوائل الثورة الصناعية وقبل سيطرتها التامة، نجد أن الملحمية في نقل المشاهد كانت أكبر بسبب التأثر بعصر النهضة. فنرى في لوحة الرسام الفرنسي كلود جوزيف فيرنيه (1714-1789)؛ "تحطم سفينة" المرسومة عام 1772، أثرا واضحا ليس فقط للنزعة الملحمية في تجسيد المناظر الطبيعية؛ بل أيضا النزعة الفلسفية.

فقد شهدت تلك الفترة في أوروبا، أواخر القرن 18، بداية اضطرابات وجودية بسبب دخول عصر الآلة والتنوير، وما تلاه من حداثة. حيث تركت تلك القفزات الهائلة أثرها الوجودي على النفس البشرية، التي تميل بطبعها للتعبير عما يعتريها من قلق وشكوك في هيئة أعمال فنية.

ويرى الناقد الفني  فيليب كونيسبي، الذي كتب "الفن من أجل الأمة"، أن حطام السفينة يثير نوعا من الرعب في نفس المتفرج، الذي لا ينفك أن يُسقط المشهد على طبيعة وجوده في الحياة ككل، والتي لطالما رمُز لها بالبحر الهائج، والوجود فيها بالسفينة التي تبحث عن مرفأ.

وقد قدم فيرنيه تحطم السفينة بشكل دراماتيكي آثر وحزين في الوقت نفسه، على حد وصف كونسيبي. فنرى السفينة في وضعية أميل للسقوط التام نحو الصخور، وكأنها ستكمل تحطمها في الدقائق المعدودة، التي يتطلع فيها المشاهد نحو اللوحة. فيما يتناثر الناجون من التحطم هنا وهناك على الشاطئ، وبعضهم بالكاد يستطيع الوقوف. فالمشهد كله مرسوم بفرشاة مفعمة بالحيوية تتوافق مع التأثيرات المختلفة للسحب والأمواج والأشخاص.

لوحة "تحطم سفينة" للرسام الفرنسي كلود جوزيف فيرنيه (1714-1789) (مواقع التواصل الاجتماعي)

ومن ملحمية التحطم لملحمية الليل، قدم فيرنيه الليل بعين مستعرة، حيث يضرب البرق مساحات أخرى من ماء البحر وصولا للميناء النائي على الساحل. فيما تموج السُحب الرمادية الداكنة حول البرق في إشارة ناجحة من الرسام لقوة العاصفة، التي دفعت بالسفينة للتحطم نحو الشاطئ. ومع ذلك، نجد أن الساحل مضاء بنور القمر، فيما تقبع أجزاء أخرى من البحر والصخور في ظلال السحب العاصفة.

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية