في انتظار مدد السماء.. كورونا يعطل حناجر المنشدين في مصر

المنشد الشيخ عبد المطلب العزب كان يعمل في مواسم الإنشاد المختلفة قبل كورونا
المنشد الشيخ عبد المطلب العزب كان يعمل في مواسم الإنشاد المختلفة قبل كورونا (الجزيرة)

يستمع بكر لمقطع مسجل للشيخ المنشد محمود التهامي على فيسبوك، ويتمايل معه طربا وهو جالس في المقهى، ويسأل جالسيه مستنكرا: "سمحوا للمقاهي بالعمل، فمتى يسمحون للموالد؟"

وبكر عامل باليومية، كان يجد سلواه في الموالد التي تقام لإحياء ذكرى أحد "الصالحين"، ولا يخلو شهر من مولد، فيذهب من هذا لذلك، مجذوبًا لأصوات المداحين ومدائحهم في حب النبي عليه الصلاة والسلام وآل بيته.

ومنذ أسكت انتشار فيروس كورونا (كوفيد-19) حناجر المداحين، وأقعدهم في بيوتهم عقب قرارات منع التجمعات وحظر التجول؛ باتت "سلوى" بكر اجترار كل ما سمعه من قبل وحفظه عن ظهر قلب من مدائح نبوية.

ويبدي رمضان (وهو رفيق بكر في الموالد وجليسه على المقهى نفسه) دهشة من عدم قدرة هؤلاء المداحين على تقديم الجديد عبر الإنترنت ويوتيوب، ليرد عليه بكر إن "هؤلاء أناس إمكاناتهم محدودة، ولا يتألقون إلا إذا شعروا بانفعال المحبين للمديح من حولهم".

معاناة

ويؤكد الشيخ عبد اللطيف العزب أن معظم المداحين يعانون بسبب توقف النشاط في مواسمه الأهم، ولا سبيل لهم للإنترنت لأنهم "أناس على باب الله، ولا علاقة لهم بالتكنولوجيا"، مضيفًا أن "شهر رمضان المبارك كان موسمًا وفير الرزق للمداحين، حيث تكثر أمسيات الإنشاد الديني، وقبل رمضان يأتي مولد السيدة زينب، حيث يكون موسمًا مباركًا للمداحين".

ويرتب المداحون التزاماتهم السنوية بناء على مواسم الموالد، فهذا الموسم يسدد مصروفات المدارس والجامعات للأبناء، وذاك يساند الأسرة عند دخول رمضان، وهكذا.

الآن ومع استطالة أمد أزمة الفيروس، يبحث كثير من المداحين عن أبواب أخرى للرزق، مع تزايد الالتزامات في ظل صمت الحناجر.

يروي أحدهم للجزيرة نت (ورفض ذكر اسمه خجلاً) أنه حول إحدى حجرات شقته الأرضية على الشارع إلى بقالة، ويغالبه الحنين للمديح وهو جالس يبيع فينشد مقاطع من أحب الأناشيد، ليفاجأ وهو في انغماسه في المديح بأفراد من جيرانه يقفون على باب البقالة منصتين وطالبين المزيد، لكنهم بالطبع لا يدفعون إلا مقابل ما يشترون لا ما يستمعون إليه.

مدّاح آخر (رفض ذكر اسمه كذلك) استدعى أساسيات حرفته القديمة قبل أن يذيع صيته كمنشد، وعاد للعمل في المحارة، غير أنه لا يكف عن الإنشاد وهو معلّق على السقالات "يطلي مترًا وينشد مقطعًا"، وزملاؤه الشباب -الأصغر منه بسنوات- يحاولون إسناد أيسر المهام إليه مراعاة لسنه.

يقول المنشد الحرفي للجزيرة نت "لسنا موظفين في جهة حكومية، ولا يوجد كيان يدعمنا ويحافظ على حقوقنا ويقدم لنا بدل بطالة في مثل هذه الأوقات الصعبة التي لم تمر علينا من قبل".

 استغاثة

واستغاث نقيب المنشدين الشيخ محمود التهامي رئيس الوزراء مصطفي مدبولي، مطالبًا بإقامة الحفلات مجددا، أسوة بأنشطة أخرى أعيدت للحياة، وقال في تصريحات صحفية "أغلب المنشدين لا يجدون قوت يومهم بسبب كورونا".

وذكر التهامي أنه يمكن استئناف نشاط الإنشاد على الإنترنت في دور الثقافة ومراكز الإبداع ودار الأوبرا، كما يحدث مع حفلات فنية ومسرحيات يجري بثها على يوتيوب، على أن يحصل المنشدون على أجور مناسبة تساعدهم على متطلبات العيش، كما ناشد الجهات المعنية العون للموافقة على إطلاق نقابة المنشدين، بما يضمن إطلاق صندوق للأزمات والتأمينات لمواجهة مثل هذه الأزمات، لا سيما أن المنشد رأسماله حنجرته، التي إذا أصيبت لا قدر الله مع الإجهاد المستمر، فهي تعني العجز الكامل.

ورغم هذه المآسي، تمكن منشدون من تطويع التقنيات الحديثة لتجاوز الأزمة، بل والربح؛ فالمنشدة إيمان أبو العلا أطلقت -بالتعاون مع الطفلة المعجزة هند أنور- أنشودتين تعتبرهما من أنجح أعمالها على الإطلاق، وتخطت مشاهدات الأنشودتين عشرات الآلاف من المشاهدات.

وفي بحث حول رحلة المديح، يسرد الباحثان مثنى العبيدي ومحمد الصياد تاريخ المديح من النقشبندي إلى ياسين التهامي، في إشارة إلى أن النقشبندي الملقب "بأستاذ المداحين"؛ هو أشهر مداحي العصر الحديث، ومثله الشيخ نصر الدين طوبار، ويضاف إليهما الشيخ طه الفشني، ومحمد الطوخي، وكامل يوسف البهتيمي، ومحمد عمران.

وكانت لكل من هؤلاء عبارات علقت بألسنة المصريين وذاكرتهم، ومنها عبارة عمران الملهمة "إلهي إن يكن ذنبي عظيما فعفوك يا إله الكون أعظم".

ويلاحظ على هذه الفترة أن أناشيدها وابتهالاتها توجهت نحو السماء إلى الله، ولم تكن هوياتية، أو طائفية، أو مذهبية، لكنها في الوقت نفسه كانت صوفية خالصة أيضا، حسب الباحثين.

المصدر : الجزيرة